حساسية التبادل الحر للأفكار
حرية الكلام مكفولة في تويتر بشكل غير محدود. حتى إن كان الكلام منافيًا للحقائق ومستهجنًا على المستوى الأخلاقي. وهذا هو ما يهب الموقع شعبيته. فهو من المنابر التي لا تشترط أي ذخيرة معرفية أو خبرات حياتية للمشاركة والتفاعل. ولا تتدخل في الرسائل المطروحة إلا إذا تجاوزت حدود التواصل إلى التحريض والتبشير بالإرهاب مثلاً. أو أن يتعرض أمن دولة لخطر ما وهكذا. وهي تجاوزات تستوجب العقاب. ولذلك يجد الفرد ضالته في هذا الفضاء، لدرجة أن أي إجراء رقابي من قبل القائمين على الموقع كإيقاف حساب أحد المتطرفين، أو حذف مقطع مُخل، يواجه بحملة من الرفض والاستهجان. إذ لا يحتمل المغردون، الذين اعتادوا تلك الحرية الفائضة والزائدة عن الحد أي شكل من أشكال الرقابة أو التقييد. باعتبارهم من دعاة حق الكلام المطلق في أي وقت وتحت أي ظرف وبدون شروط.
لا يشترط القائمون على تويتر أي سقف عندما يكون الكلام تعبيرًا شخصيًا عن معتقدات الفرد. بما يستتبع ذلك التعبير من اشتباك مع الآخرين على مستوى التفكير وتبادل الآراء وتسجيل المواقف. على اعتبار ان الموقع أحد أهم مكتسبات اللحظة الديمقراطية الكونية. حيث المنازع الذاتية لحرية الكلام تُستكمل، أو بمعنى أدق تتمدد وتكتسب وهجها، من خلال حرية التعبير. إذ لا يمكن أن تكون صيغ التعبير والإعلان عن الحضور وتمثيل الهويات على تلك الدرجة من الحيادية. بل العكس هو الصحيح، فكل ما يُطرح، إنما يُقال للتعبير عن وجهة نظر، أو تمثيل جماعة، فيما يشبه الإعلان عن مقاصد قتالية تأخذ طابع الحضور الكلامي. وهذا هو بالتحديد ما يكشف عن عنفها اللفظي وما تحتقن به من ازدراء للآخر أو معاداة الحكومات وهكذا.
الأفكار تتطور من خلال التفاعل. أي في مناخ تسوده حرية الكلام والتواصل بين مختلف الآراء والتوجهات. أما الحظر على الرأي فيمنع إنضاج الرؤى وبناء التصورات حول الآخر. وبقدر ما يتشجع الفرد على إبداء رأيه والتعبير عن مواقفه بقدر ما تنمو شخصيته ويقوى حضوره. شريطة أن يكون ذلك التعبير مبنيًا في الأساس على وجود رأي. أما السباب والشتم والتحريض والحط من قدر الآخرين، فليست من حرية الكلام ولا حرية التعبير. وهي حضورات مرتبكة لا تسهم في رفع قيود التعبير عن الرأي. لأنها لا تستند لا على المعرفة ولا على أي منزع أخلاقي. وهو أمر يتنافى مع تاريخ النضال الانساني لتوسيع هامش الكلام والتعبير. كما أنه قد يدفع إلى تدابير قانونية وتشريعية للحد من ذلك المكتسب بدعوى الحفاظ على السلم الاجتماعي. وهو حظر لا يتدخل فيه القائمون على تويتر، بل المجتمعات والدول المتضررة من الإفراط الزائد في حرية الكلام.
إن تاريخ المنع من الكلام لم يبدأ بظهور موقع تويتر، بل هو تاريخ الانسان ذاته في كل مراحله، حيث يشهد التاريخ على سلسلة من الأفعال الواقعية والرمزية المضادة كالاضطهادات والإخراسات وحرق الكتب. كما أن التسامح مع المنادين بحرية الكلام لم يؤسس لرقابة ذاتية واعية تقدر قيمة هذا المكتسب. لأن غياب الرقابة عند المبتذلين يساوي وجودها. وبالتالي فإن الحرية التي يُفترض أن تتأتى أو تتولد في فضاءات التعبير عن الذات كانت وما زالت محل خلاف، خصوصاً أن الإعلام، ومن خلال قدراته الهائلة على توظيف المكتسبات الفكرية والشعورية والتقنية يستطيع حرف الرسالة وإعادة توجيهها بمقتضى ما تريده القوى التي يمثلها. وهذا هو ما يحدث على وجه الدقة اليوم في تويتر. حيث تستثمر مختلف القوى ذلك الفضاء المفتوح على حرية الكلام والتعبير لتنفيذ مخططاتها، في الوقت الذي يتعرض فيه الفرد إلى خديعة التعبير عن مواقفه بأقصى طاقته الاستقلالية.
هكذا تبدو حرية الكلام وكأنها ضرب من العبث. فهناك مَنْ يبرمج اللحظة والمكان والكيفية التي ينبغي بموجبها التعبير عن المواقف والآراء. في الوقت الذي يتوهم فيه الفرد أنه بقدر من يعبر عن تطرفه وكراهيته للآخر بقدر ما يكون مؤديًا لفروض التعبير. والأخطر يتمثل في اعتقاده بأن جرعة الحرية الزائدة والثرثرة، التي يبددها كل لحظة في فضاء تويتر هي شكل من أشكال الأداء المعرفي. والواقع يقول غير ذلك تماما. فهي خالية من المعاني، ومفرغة من المعلومات، وخاوية من الحسّ الانساني، وليس فيها إلا حرية جرح الآخرين والاستهزاء بمعتقداتهم. وهذا الصنف من المنادين بحرية الكلام والتعبير، لا تعني له هذه المطالبات إلا اكتساب حرية التنكيل بالمخالفين لآرائه ومعتقداته. وهو بالتالي يطالب بإخراسهم وعدم تمكينهم من حرية الكلام والتعبير عن حضورهم.
التحريض على العنف، وبث الكراهية، وإثارة النعرات، والتغني بالعصبيات، والدفع باتجاه تدمير المؤسسات، وغيرها من التشوهات التعبيرية ليست من حرية الكلام في شيء. فهي صيحات تمجيدية لخراب شامل. ولا يطلقها تحت عنوان حرية الكلام إلا أولئك الذين يرفضون أن يمارس القائمون على تويتر أي شكل من أشكال التقنين أو الرقابة. أما التغاضي الذي تبديه تويتر عن أولئك الذين يتحركون في مساحة فائضة بالحرية، فهذا يعود لأسباب موضوعية تتعلق بلحظة الحرية الكونية. وذلك بمقتضى التبادل الحر للأفكار، الذي تحف به حساسيات وتبعات غير محسوبة، فالواقع يؤكد أن معظم ما يُطرح لا يرقى إلى مستوى الأفكار. وهو الأمر الذي يحتّم التدخل بقوانين تشريعية تدافع عن حرية الكلام وتردع مَنْ يسيء استعمال هذا الحق في تعريض المجتمع والوطن للخطر. لأن حرية الكلام ضرورة لأي حوار مجتمعي، كما أن تعرّض الفرد لكم كبير من الأفكار تعافيه من التعصب والانغلاق.