آخر تحديث: 12 / 12 / 2024م - 10:30 ص

أوروبا والخيار العسير

الدكتور توفيق السيف * صحيفة الشرق الأوسط

المنتدى الاقتصادي العالمي الذي ينعقد في دافوس كل شتاء خصص بعض جلساته هذا العام لمناقشة موضوع الهجرة. وهو أمر يكشف عن تحول جوهري في فهم العالم هذا الموضوع وانعكاساته.

يرجع الجدل حول مسألة الهجرة إلى أواخر القرن المنصرم. وكان يدفعه خليط من العوامل الاقتصادية والثقافية، وانضم إليها العامل السياسي والأمني في وقت لاحق.

عرفت أوروبا أوسع موجات الهجرة في سنوات النهوض الاقتصادي عقب الحرب الكونية الثانية. وجرى التعامل معها بتساهل ملحوظ حتى أواخر القرن العشرين. آلاف العمال الذين جاءوا من شبه القارة الهندية وأفريقيا وشرق آسيا، عملوا في مصانع المحركات والنسيج، وساهموا في شق الطرق وبناء المساكن والسكك الحديدية، وعمل كثير منهم في الوظائف المتدنية الأجور، في المطاعم والبقالات والخدمات العامة. وجرى التعامل مع مشكلات الهجرة وفق منظور اقتصادي بحت، يحدده حجم المكاسب والأضرار المترتبة عليها. بريطانيا وفرنسا مثلاً كانتا متساهلتين جدًا في منح مواطني مستعمراتهما السابقة تأشيرات الدخول ورخص العمل، لأن اقتصاديهما كانا محتاجين إليهم.

في العقدين الماضيين برزت عوامل جديدة، تحول النقاش معها إلى قضايا الهوية والاندماج الاجتماعي. لعل أبرز تلك العوامل هو التباطؤ الاقتصادي، سيما في القطاعات التي تتطلب عمالة كثيفة، وتفكك المعسكر الاشتراكي وما ترتب عليه من انفتاح سوق العمل في أوروبا الغربية أمام مواطني الجزء الشرقي. وأخيرًا التحولات التي طرأت على التكوين الثقافي لجماعات المهاجرين.

فيما يخص العامل الأخير، يهمني لفت الانتباه إلى أن التحول في هوية المهاجرين المسلمين يحظى بتركيز أوسع من جانب الإعلام، ولذا فهو يلفت النظر بدرجة أكبر. لكن المسألة تتجاوز هذا الإطار. أذكر مثلاً أن بروز نيلسون مانديلا كشخصية مرجعية على مستوى العالم، منذ إطلاق سراحه في 1990، قد أطلق بالتوازي موجة حماس واسعة بين المهاجرين ذوي الأصول الأفريقية، بمن فيهم أولئك الذين هاجر آباؤهم قبل قرن من الزمن، وانقطعت صلتهم تمامًا بأوطانهم الأصلية. في الوقت نفسه تقريبًا، كان المهاجرون من الصين وجنوب شرقي آسيا على موعد مع موجة حماس مماثلة غذاها النهوض الاقتصادي في مجموعة الدول التي عرفت يومها بالنمور الآسيوية، بعدما برزت كتجارب ناجحة للنمو الصناعي السريع.

فيما يخص المهاجرين المسلمين، سيما من الشرق الأوسط وشبه القارة الهندية، فإن الجدل الواسع حول بعض القضايا أوائل 1989، ثم أزمة الخليج في العام التالي، شكلا فرصة لمراجعة الذات واكتشاف هوية متمايزة عن المحيط.

في كل هذه المسارات، كان محرك الأزمة هو رغبة المهاجرين في تعامل المجتمع الأوروبي معهم كما هم، أي من دون توقع أن يندمجوا كليًا في تقاليده، إذا كانت تستدعي التخلي عن إرثهم الثقافي الخاص. وأذكر أن هذه الفترة شهدت اهتمامًا غير مسبوق بالرموز التي تشير إلى التمايز، مثل المظاهر الدينية، والملابس التقليدية، والمطاعم التي تقدم الوجبات التراثية، والاحتفال بالمناسبات الوطنية والقومية، والفولكلور والموسيقى... إلخ.

إعادة المهاجرين إلى أوطانهم الأصلية ليست خيارًا متاحًا. كما لم يعد ممكنًا إجبارهم على الاندماج التام. ولهذا تجد أوروبا نفسها أمام خيار عسير، تدعمه النخبة ويعارضه بعض الجمهور، خلاصته هو التحول إلى مجتمع متعدد الثقافات، لا ينظر إلى الاندماج الاجتماعي كعامل في توليف الوحدة الوطنية. وأظن أن هذا هو المسار المتوقع في العالم كله.

باحث ومفكر عربي من المملكة العربية السعودية.