ثقافة الغزو
عرفت البشرية الغزو، بشتى صورته واشكاله، على مر العصور والقرون، حيث تتصاعد وتيرتها وتتراجع، تبعا للأطماع المحركة، للاستيلاء على املاك، واراضي الاخرين، فالغزو لا يقتصر على الجيوش العسكرية، التي تجتاح المناطق الاكثر ضعفا، سواء للاستيلاء على الموارد الاقتصادية، او لأغراض التوسع الجغرافي، بل يتعدى مفهوم الغزو، ليشمل الممارسات الفردية، عبر استخدام السطوة او القوة لانتزاع حقوق الاخرين.
الحروب والمعارك الطاحنة، التي سجلها التاريخ القديم والحديث، تعكس مقدار الاطماع السياسية، والاقتصادية، لدى بعض الشعوب، للاستيلاء على مقدرات المجتمعات الاخرى، فالحروب العسكرية، تمثل الوجه البارز، لمجموعة الاهداف المرسومة، حيث تعتبر القوة الوسيلة الوحيدة، للسيطرة على الاطراف الاخرى، خصوصا وان المجتمعات على اختلافها، ترفض سيطرة ”الغريب“، على مقاليد الامور، والتحكم بالموارد المالية، والطبيعية، مما يفرض على الغازي، استخدام الجيوش العسكرية، لاقتحام البلدان الاخرى، نظرا لصعوبة الدخول، بطريقة سلمية، او بعيدة عن استخدام القتل، واراقة الدماء.
الغزو ابرز مصاديق الوحشية، لدى الانسان، حيث تتجلى هذه الممارسات، في استخدام شتى انواع الاذلال، والقهر، تجاه الطرف الاضعف، اذ يحاول الغازي اظهار السيطرة، على مقاليد الامور، والامساك، بزمام الاوضاع، عبر انتهاج سياسة القوة الضاربة، خصوصا وان الطرف الغازي، يدرك فقدان الطرف المقابل مقومات القوة، والوقوف امام سطوته، مما يجعله يستمر في ابتكار، مختلف اساليب القهر، «ما غُزِيَ قوم في عقر دارهم إلا ذلّوا».
المجتمعات التي تتعرض للغزو، تتعرض لمحاولات كثيرة، لمسح هويتها الثقافية، وتغيير التركيبة السكانية، والجغرافية، حيث يتحرك الغازي، وفق اجندة مرسومة، لإحداث اختلالات تدريجية، في البيئة الاجتماعية، ومحاولة اجراء تغييرات، في المفاهيم الثقافية السائدة، فالوصول الى تلك الاهداف، يتطلب جهود كبيرة، ودراسات ميدانية عديدة، بهدف الوقوف على مكامن القوة، والتعرف على نقاط الضعف، مما يمّكن الطرف الغازي، من الانطلاق بشكل عملي، للتركيز على نقاط الضعف، بالدرجة الاولى.
قابلية الركون للواقع الجديد، تمثل احد الامراض المزمنة، لاستمرار سنوات الغزو، فالرضا بالوافد الجديد، بمثابة بيئة مثالية، لتمرير الاجندة الخاصة، بالطرف الغازي، حيث يتحرك بكل حرية، وثقة كبيرة في التلاعب، بالمفاهيم الاجتماعية والثقافية، المتجذرة في الجغرافيا الجديدة، مما يدفعه لمواصلة الخطط للبقاء، سنوات طويلة للاستيلاء، على الخيرات والتنعم بها، على حساب اصحاب الحق، ”السكان الحقيقيون“.
تبني المفاهيم الثقافية للطرف الغازي، احد الاهداف الاستراتيجية، للاستقرار في البيئة الجديدة، فالمقاومة العسكرية والثقافية، تشكل ابرز التحديات، التي تواجه الغازي، في مختلف العصور والحقب التاريخية، الامر الذي يفسر تقسيم المعتدي، اعماله الى جهود عسكرية، عبر استخدام الالة العسكرية، والعصا الغليظة، في وجه مختلف انواع المقاومة المسلحة، بالإضافة للتحرك عبر، العمل الثقافي من خلال، اصدار المجلات، والصحف، وافتتاح القنوات التلفزيونية وتأسيس الاذاعات، وغيرها من الاشكال الثقافية المختلفة، بهدف استقطاب شرائح اجتماعية، والتأثير على الجيل الناشئ، والطبقات الشبابية، على اختلافها، باعتبارها الشرائح الاكثر، قدرة على المقاومة، من الشرائح الاجتماعية الاخرى.