عندما تكون اللغة كاميرا تصوير متحركة «حبيب محمود من زمبوه حتى النخلاوي»
عرفته مصادفة أديبًا بقلمه على أحد مواقع التواصل الاجتماعي قبل أن أعرف من يكون.
كان صاحب حرف متميز. استرعت اهتمامي اللياقة اللغويّة التي يتمتع بها قلمه، وأسلوبه.
مع الوقت بدأت أنتبه لطريقته الفكريّة الفذّة في توصيف الأحداث بحياديّة ووعي بعيدًا عن الأدّلجة المقيتة، حتى صافحتُ كتبه السرديّة والشعريّة منذ عدة أشهر.
بدأتُ بقراءة «النخلاوي» الخارجة عن أُطر التجنيس الأدبي، حتى ربطت بينها وبين «زمبوه» من خلال الأحداث، فتبيّن لي أنّ «النخلاوي» ما هي إلا جزء ثانٍ لرواية «زمبوه»، وأنّ كلتيهما تتخذ شكل «النوفيلا»؛ فكلتاهما سرد قصير محكم البناء، واقعي في مجمله، تهكمي النبرة من أوجاع اجتماعية معينة.
بدا لي بعد قراءة جلّ نتاجه الأدبي أنّ حبيب محمود الشاعر السارد «ظاهرة لغوية أنيقة»؛ فالقارئ له لن يمل أسلوبه السلس الذي يقول فيه كلّ شيء بمجازيّة شفيفة محببة ناقلاً لنا اللهجة القطيفية بعفوية آسرة؛ فهو يُعلّمك ما تجهل عن تلك البقعة الخضراء دون أن يُشعرك بأنّه يفعل ذلك.
ستقرأ المجتمع السعودي المزارع منذ يقظته المستبشرة، حتى نومه من بعد كدح. سيحكي لك حكايات النخيل بحميمية عُشّاق الأرض الذين اتخذوا من لون الأرض سمرتهم، ومن كرم النخيل رغبتهم اللامتناهية في العطاء بلا حدود.
ستستنشق مع لغته رائحة الطين، والبحر، والأعشاب. ستسمع معها صوت الدجاج، والأبقار، والطيور، وحفيف الشجر. ستشاهد رقرقة مياه العيون، والسواقي. سيجرف الحنين بعض روحك وأنت تستحضر عبق عشش الخوص، والعرائش، في الأيام القائظة قبل زمن الأسمنت، وربما تتمنى لو أنّك من ذلك الزّمن الجميل ببساطته.
إنّه يعرف كيف يقول بلغته لك كلّ شيء عادي بطريقة غير عادية، ولا ينسى أن يُغلّف كلّ هذا بالعفويّة المطلقة التي تجعلك تحار: هل كانت عفويّة حقًّا، أم أنّ جمالها صورها لك كذلك؟!
يقول في رواية «زمبوه» وهو يصف الشعور المقيت الذي يسكن البطل، وهو يسمع الألسن تلوك سيرة تلك الفتاة: «وصوت أسنان النساء الأربع يفرك شحمة أذنه». العبارة المجازيّة أوصلت الصورة بشعورها تمامًا ووقعها على النفس، حتى أنّك تعيش الحالة تمامًا.
ويقول معبرًا عن الظنون التي لحقت ببطل القصة: «الصور في الطريق تكاد تنطق ببقية القصة». ويقول مكملًا سيرورة الشك: «في العين كانت القصة تطفو على سطح الماء». وعن وصف إحساس البطل إزاء كل هذه الثرثرة وهو في نظره الشاهد الوحيد الذي كتم ما علم يقول: «حرارة الإحساس داخله تحوم في معدته وصدره.. كاد أن يتقيأ ما في بطنه». هذه الجملة التي لا يصعب على كل حسّاس استحضارها، عندما يلامس روحه ما يوجعها، فعوضًا عن أن يغضب ويصرخ، يتحول الإحساس إلى قسوة تعيث بالجوف فسادًا على هيئة مرض مؤقت.
وسط كلّ هذا يُمرِّر حبيب محمود ثقافته التاريخية؛ ليمنحك المعلومة بطريقة سلسلة.
يعطيك ثقافة اللهجة القطيفية ببساطة عندما يتدخل الراوي في تفكيك بعض ما يخشى ألا يصل كما يريد له أن يصل؛ يقول في التبرير لمناداة زينب ب «زمبوه»: «حين تمرّ الأسماء من حنجرة الغضب يُعاد بناؤها، وتلتقط واوًا وهاءً في ذيلها».
اللغة ذاتها بعفويتها ستجدها في كلّ نتاج الأديب السعودي حبيب محمود، حتى وهو يسرد شيئًا من سيرته في: «كشوانية7».
حبيب محمود قلم ساخر برقي، غاضب في هدوء، يمتلك رؤية إنسانية عميقة، تعرف كيف تمسك بمكامن الحنين في داخلنا، وتجرنا من قلوبنا حتى آخر نهايات الحَكَايا.