الضوابط لا الروابط
قبل أيام كنت أبحث في مكتبة ابني عن كتاب يستهويني لقراءته، فوجدت كتاب «حياة في الإدارة» للدكتور غازي القصيبي، فأخذت في قراءته إلى أن استوفيته عن آخره.
وكعادتي بعد انتهائي من قراءة كتاب أسأل نفسي هذا التساؤل وهو: ما النجمة المضيئة التي سطعت في سماء عقلي بعد انتهائي من قراءة هذا الكتاب؟
وقبل أن أجيب عنه أو التكفير فيه تسلل النوم سريعاً إليَّ فعشت في حلم جميل، إذ أصبحت إنساناً أملك ثروة طائلة بسبب ممارستي لمهنة المحاسبة القانونية، حيث حصلت على الشهادة الجامعية في تخصص المحاسبة والعلوم المالية، فعملت في وظيفة حكومية لفترة زمنية يسيرة بيد أني وجدتها لا تلبي طموحاتي وتطلعاتي فأقدمت على الاستقالة من الوظيفة وفتحت مكتباً صغيراً للمحاسبة القانونية، وعينت ابن عمي - غير المتخصص والمفتقر إلى المقومات الوظيفية - مساعداً لي.
وبعد فترة من الزمن وانطلاقاً من إيماني بالتغيير والصيرورة والتحول فكرت في التوسع في نشاط عملي ليكون مواكباً لمعطيات العصر وما تفرزه من مشاكل وقضايا قانونية مالية. فقمت بتجديد المكتب من حيث الديكور والأثاث وتوسيع مساحته.
وأنا في فترة إشرافي على تجديد المكتب قفزت إلى ذهني بارقة عقلية قوامها التساؤل التالي:
هل حقاً ما صنعته من تغيير شكلي ظاهري كافٍ لإنجاز تقدم ونمو في مسيرة نشاط عملي وتحقيق الهدف الذي أسعى إليه أم لا؟
إنَّ تحقيق الهدف لن يتحقق إذا لم يرافق التغيير الظاهري تغيير جوهري، والتغيير الجوهري لا يكون إلا بتغيير المفاهيم والأفكار. وأبرز تلك المفاهيم والأفكار التي أجدها نقطة الانطلاق نحو التغيير والتبديل والتحويل والتنمية هي فكرة الاعتماد على الضوابط لا الروابط.
إذ بهذا المعيار أستطيع أن أحقق طموحاتي وتطلعاتي وأرتقي سلم النجاح. أما لو بقيت على تقديم الروابط على الضوابط لن أتقدم خطوةً واحدةً.
وهذا التساؤل السالف شكل لي منصةً أقف عليها لأقوم بمراجعة نقدية تتسم بالعقلانية والموضوعية المتجردة من العاطفة المفرطة.
ولذا أول عمل قمت به في يوم افتتاح مكتبي الجديد عينت موظفاً جديداً يحمل شهادة في المحاسبة، له سجل وظيفي حافل ويملك المقومات التي تناسب الوظيفة، ليكون مساعداً لي بدلاً من ابن عمي غير المتخصص الذي يعوزه مهارات ومقومات ومؤهلات وظيفية.
يقول الدكتور زكي محمود هاشم في هذا الصدد: «وضع الشخص المناسب في الوظيفة المناسبة هو أمر له أثره البالغ في رفع الكفاءة الإنتاجية بالمنظمة».
وهذا الإجراء أفضى إلى تبرم وامتعاظ ابن عمي فسألني:
لماذا صنعت ذلك؟ وماذا صنعت لك لتضع الغريب بدلاً مني؟
فأجبته:
أسئلتك لا تخرج عن دائرة العاطفة الجامحة ومستندة إلى معيار الروابط الذي لا يتسق مع روح العصر والتقدم والازدهار الذي يرى الأولوية لتقديم معيار الضوابط على معيار الروابط.
ومعيار الضوابط يتمثل في تحصيل علمي وسجل وظيفي واستعداد للوظيفة وثقة في النفس من خلال ما يملكه الفرد من مهارات وأساليب تتناسب مع الوظيفة.
وجميعها يا بن العم تفتقر إليها. ولذا أدعوك - قبل أن تحكم عليَّ بأني ظالم وحقير ولئيم ولا أقيم وزناً ولا قيمةً لذوي القربى - أن تثير في نفسك التساؤلات التالية:
- ماذا تحتاج هذه الوظيفة من مقومات ومؤهلات؟
- هل أنا أملك هذه المقومات والمؤهلات التي تؤهلني إلى أن أكون في هذه الوظيفة؟
- هل أنا مناسب لهذه الوظيفة أم لا؟
فإثارة مثل هذه التساؤلات العقلانية والموضوعية المجردة عن العاطفة في نفسك ستجد صوابية قراري وإجرائي وبالتالي سيتولد الرضا والقبول في نفسك من هذا الإجراء.
يا بن العم أهمس في أُذنك:
بقاؤك في وظيفتك كمساعد لي يتعارض مع مفهوم الوجود ومبدأ العمل وضرورة التغيير والتحويل والصيرورة.
يا بن العم:
وجدتك أحد موانع تطوير مكتبي وعنصراً معرقلاً في طريق تحقيق هدفي فأزحتك.
يا بن العم:
إذا أردت أن تعود إلى وظيفتك فالباب مشرع إليك، لكن شرط العودة أن تعود مرتدياً ثوب الضوابط بعد أن تخلع ثوب الروابط، فالوظيفة اكتساب لا انحياز.
فالانحياز إلى الأقارب وأبناء العشيرة والقبيلة والمذهب الواحد والدين الواحد يشكل حجر عثرة في طريق التقدم والرقي وازدهار البلاد ونموه.
يا بن العم:
أدعوك إلى التأمل في قوله تعالى ﴿وأنَّ ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى﴾ ففي هذه الآية إشارة واضحة إلى أنَّ صلاح الإنسان وفلاحه مرهون بعمله وسعيه وعلمه لا بالقرابة والواسطة والرابطة.
وما أن ودعت ابن عمي إلى خارج المكتب بعد أن أعطيته مستحقات نهاية خدمته لدي، استيقظت من نومي وقلت: الحمد لله الحمد لله إنه حلم إنه حلم، إذ لا أستطيع أن أضحي بالروابط «ابن عمي» من أجل الضوابط، فحالي حال بقية أفراد المجتمع ولست بدعاً عنه.
وفي الختام أضع التساؤل التالي أمام القارئ الكريم:
بأي ثقافة نستطيع أن نحقق لبلادنا تقدماً ورقياً وازدهاراً ونمواً، بثقافة الروابط أم بثقافة الضوابط؟