حين توقف حبات الذرة فرقعتها
مؤخرا عادت والدتي الخمسينية لممارسة هواية الخياطة، أهملتها زمنا طويلا، ربت خلاله تسعة أطفال جميعهم الآن مستقلون ناجحون، فرحت برؤية وجهها يشرق سعادة وهي تتلقى الإعجاب «الصادق» بجمال ما خاطت من ملابس أطفال، وأغطية قطع أثاث، راقبتها وهي تشاهد بتركيز مقاطع يوتيوب تعليمية لقواعد الخياطة وقص الباترون، ثم تطلب بحماس من أبي أو أخي اصطحابها لمحل أقمشة تشتري وتطبق ما تعلمت يومها.
ورغم استمرار رعايتها لبعض أحفادها في الفترة الصباحية، تعينها مربيتهم، إلا أنها وجدت الوقت لفعل ما تحب، فأمدها بطاقة شابة نابضة بالحياة.
ممارسة عمل تهواه أو نشاط تبرع فيه لا تقتصر على عمر معين، ولا تنتهي بمضي الشباب واشتعال الرأس شيبا، بل فترة التقاعد من العمل أو مسؤوليات تنشئة الصغار هي الوقت المثالي لذلك، يمنع تسلل الملل والضجر والإحساس بفقدان الأهمية وانتهاء فترة الإنجازات، ولا سيما مع خواء المنزل وترديد جدرانه الصدى، بعد أن كان بالأمس القريب يضج بأطفال يتقافزون كحبات ذرة تفرقع في طنجرة!
وهو أمر قد يصيب كبير السن بالاكتئاب ويجعله أكثر حساسية وقلقا، كثير التذمر والشكوى حتى مع زيارات أبنائه المنتظمة التي تبقى أقل من أن تملأ وقت الفراغ المديد خلال التقاعد.
يظن البعض أن التقدم في السن يجعل الكثير من الأنشطة تدخل في خانة العيب والمحظور، ولا سيما بالنسبة للنساء، فالمرأة حين تكبر قليلا تهمل مظهرها ولباسها والعناية بجمالها وبشرتها، تراه غير لائق بمن في عمرها، فتنتهي صلاحية مواد التجميل خاصتها دون شراء غيرها، وتستمر بارتداء ملابس أكل الدهر عليها وشرب، ولا تفكر في الخضوع لعلاجات تعيد لوجهها شيئا من نضارته، وتترك جسدها يترهل ويسمن رغم قربها من صالات رياضية، عوامل تعاسة تلفها حول عنقها، فتشيخ أسرع مما يجب، وتتكاثر بوجهها تجاعيد كان يمكن وأدها، وتتلبس رسميا كل صفات متقدمي السن، فتتراجع الصحة وتضعف الذاكرة وتشتد وطأة الأمراض ويقصر العمر، لأن ما يحويه العقل الباطن يترجمه الجسد لا شعوريا، والأمر ذاته ينطبق على الرجل تقريبا.
بر الوالدين ليس بدعمهما ماديا ومعنويا فحسب، بل إعانتهما على تجاوز فترة الشيخوخة بأقل قدر من الأضرار، فلماذا لا يهدي الأبناء والديهم قيمة الاشتراك في دورة تنمي لديهم هواية قديمة؟ أو يضمونهم لناد رياضي، أو كمتطوعين في جمعية خيرية؟ أو يدفعون لهم قيمة عملية تجميل أو سفرة مشوقة، أو يعينونهم لبدء مشروع تجاري بسيط الجهد والتكلفة؟ ستشغل وقتهم وتحفزهم بدنيا وعقليا وتغمرهم سعادة منفعتهم لأنفسهم وللآخرين.