آخر تحديث: 12 / 12 / 2024م - 10:30 ص

سقوط العولمة انقلاب السحر على الساحر

يوسف مكي * صحيفة الوطن

جاء الإعلان عن تأسيس منظمة التجارة العالمية في مطلع عام 1995، ليشكل انتقالا رئيسا في مفهوم العولمة، نقله من طابعه الاستعماري القسري إلى الشكل المؤسساتي

العولمة ظاهرة ارتبطت بتوسع أحجام السوق، وهي بذلك في نسختها الأصلية صنو للاستعمار الحديث الذي كسر الحواجز القومية، وانطلق من القارة الأوروبية إلى القارات القديمة، وإلى أميركا اللاتينية، لتحقيق جملة من الأهداف، يأتي على رأسها، كسر الحواجز الجمركية، والسيطرة على المناطق والمعابر الإستراتيجية، ونهب الموارد الطبيعية والمواد الخام، وتأمين أسواق جديدة، لمنتجات دول المركز.

تطور مفهوم العولمة لاحقا، لتلحق به الشركات المتعددة الجنسية، والتي يطلق عليها مجازا في دول العالم الثالث بالشركات ”المتعدية الجنسية“، في إشارة جلية لطبيعتها التي تفتقر إلى المساواة، وتنحو نحو احتكار الأسواق العالمية. وقد حققت هذه الظاهرة اندماج أسواق جميع بلدان العالم في اقتصادات السوق الرأسمالية.

وحتى ما عرف في حينه بالكتلة الاشتراكية، في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفييتي، وجدت أنفسها، منذ ارتفاع الجدار الحديدي الذي ارتبط بالمرحلة الستالينية، مرتبطة رغم شعاراتها العقائدية الصاخبة بالأسواق العالمية الكبرى، ومتأثرة بها.

مع اقتراب نهايات الحرب الباردة، وتضعضع الاتحاد السوفييتي، بفعل الأزمات الاقتصادية الماحقة التي مرت به، وشيخوخة نظامه، برزت العولمة في أشكال جديدة، عبر عنها بقوة نشوء منظمة التجارة العالمية ”الجات“، بعد فترة وجيزة من سقوط الاتحاد السوفييتي والكتلة الاشتراكية، وتربع الولايات المتحدة، كقطب أوحد دون منازع، على عرش الهيمنة الدولية.

جاء الإعلان عن تأسيس منظمة التجارة العالمية في مطلع عام 1995، ليشكل انتقالا رئيسا في مفهوم العولمة، نقله من طابعه الاستعماري القسري، إلى الشكل المؤسساتي، الذي تستند عملياته على أسس ناظمة، مقرة ومعترف بها من قبل جميع الأعضاء المنخرطين في هذه المنظمة التي تضطلع بوضع الأسس والقوانين الناظمة للعلاقات التجارية بين الأمم، والمستندة في جوهرها ومقدماتها على حرية السوق، وجعل الأبواب مشرعة للتنافس الحر، بين عالم صناعي متقدم، قطع خطوات كبرى على طريق التصنيع والنماء، وبين عالم متخلف لا يزال يبحث عن مواقع أقدامه، في عالم لا يحترم غير لغة القوة. وفي العام الماضي، 2016، بلغ عدد الدول التي انضمت إلى هذه المنظمة 164 دولة، إضافة إلى 20 دولة أخرى بصفة مراقب. والهدف الرئيس المعلن لنشاط هذه المنظمة هو تحرير الاقتصاد، وفتح الأسواق، والسماح بتدفق رؤوس الأموال بين الدول من غير قيود، وإلغاء الحواجز الجمركية.

وطبيعي أمام الأهداف المعلنة لمنظمة التجارة العالمية أن تشمل أنشطتها خدمات الاتصالات السلكية واللاسلكية، وتكنولوجيا المعلومات، والخدمات المالية، من تجارة بنكية وتأمين، وأوراق ومعلومات مالية، وخدمات إلكترونية.

وأخطر ما في مشروع منظمة التجارة الدولي أنه يفرض نمطا اقتصاديا واحدا على العالم بأسره. وهذا النمط الاقتصادي له تبعات سياسية واجتماعية، لا يمكن الفكاك منها، طالما قبل المنخرطون في هذه المنظمة بقوانين اللعب فيها.

ولم يكن بدًّا للدول الباحثة عن الأمن والاستقرار وفرص اقتصادية بين الكبار من الالتحاق بمنظمة التجارة العالمية، وقبول شروط الانخراط بها، رغم أن بعض هذه الشروط له تبعاته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في داخل هذه البلدان، وفي مقدمة تلك النتائج، الحيلولة دون نمو حقيقي للصناعات الوطنية في البلدان النامية التي لم يكن في وسعها التنافس مع ”الكارتلات“ العقود الدولية الكبرى التي دخلت في مرحلة التصنيع بالأبعاد الكبيرة mass production.

لكن السحر انقلب على الساحر.. فالولايات المتحدة الأميركية التي أرادت من خلال ريادتها لتأسيس هذه المنظمة احتكار السوق، وإبقاء بلدان العالم النامي، إلى ما لا نهاية، سوقا استهلالية لمنتجاتها، اصطدمت بواقع مرير لم تتحسب له من قبل.

كانت الخشية في السبعينات والثمانينات من القرن المنصرم، من نهوض هندي اقتصادي، توفر له قوته البشرية، وقدراته العلمية، إنتاج بضائع رخيصة، من ضمنها سيارات النقل والركاب، بأسعار زهيدة، تكون قادرة على اكتساح السوق العالمية. وقد شملت الاجتماعات الأولى لمنظمة التجارة العالمية محاولات من الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية واليابان، لإعاقة عمليات التصنيع وحرية الحركة للهند. وتم فرض شروط مجحفة بحقها، متناقضة مع مبادئ منظمة التجارة العالمية، بذريعة اختلاف بيئتها، بالمقارنة مع الدول الصناعية المتقدمة.

لكن اكتساح السوق العالمية جاء من التنين الصيني الذي حققت تجارته اختراقات واسعة في جميع القارات، مستفيدا من المكتسبات التي أتاحها له انضمامه في منظمة التجارة الدولية، وأيضا قوته البشرية الهائلة، وضعف عملته.

في العقدين الأخيرين بشكل خاص، حقق الاقتصاد الصيني طفرات عالية تمكن فيها من فرض سطوته. وقد أسهم إلى حد كبير في مساعدة الولايات المتحدة الأميركية على الخروج من أزمتها الاقتصادية، من خلال شرائه المكثف والواسع لسندات الخزينة الأميركية، وتقديمه قروضا كبيرة للحكومة الفيدرالية، وشرائه الكثير من المصانع التي أعلنت إفلاسها أو كانت على وشك الإفلاس. باتت الصين تتحدى أقوى اقتصاد في العالم، حيث يتوقع أن يكون ثقل اقتصادها معادلا لقوة أميركا الاقتصادية في وقت قريب، قد لا يتجاوز السنوات الأربع من هذا التاريخ.

في ظل ظروف كهذه عادت ثقافة الانكفاء والعزلة تطل من جديد، وكان الاقتراع البريطاني على الخروج من الاتحاد الأوروبي أول خطوة رئيسة في سياسة الانكفاء. لكن حكومة الرئيس الأميركي ترمب هي الأوضح في التعبير عن سياسة الانكفاء والعزلة، والعودة إلى القوانين القديمة للسوق. وهي سياسة تعيد الاعتبار إلى الحماية الوطنية، وفرض الحواجز الجمركية مجددا. وتتخلى بوضوح عن المبادئ والأهداف الاقتصادية التي بشرت بها الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ بداية التسعينات من القرن المنصرم.

مجددا لم يعُد عالم الاقتصاد يقبل بالقرية العالمية الواحدة، وبالانفتاح الاقتصادي، وحرية السوق، لقد انقلب السحر على الساحر.