حساب المواطن واتضاح الصورة
من أولى مزايا «حساب المواطن» حتى قبل أن يبدأ في إيداع النقود في حساباتنا المصرفية، أنه سيخرجنا من حالة اتخاذ القرار بناء على «الانطباعات» أو «التخمينات» أو «المسوحات» بعينات لم تُسحب بدقة ومنهجية بما يجعلها لا تمثل المجتمع برمته. سيخرجنا «حساب المواطن» من حالة اتخاذ القرار بناء على بيانات غير كاملة، إلى أفق جديد يقوم على اتخاذ بيان بناءً على بيانات ميدانية شاملة. هذه نقطة لا يجدر بنا أن نتجاوزها دون تمعن.
السياسات التفصيلية ذات الصلة ب «حساب المواطن» ستتخذ بناء على حصيلة تحليل البيانات، والبيانات هذه المرة ليست انطباعية أو مسوحات بالعينة، بل وفق بيانات حقيقية تفصيلية سيسجلها كل رب أسرة، وهي بيانات من واقع أسرته وسكنه ومصادر دخل الأسرة.
وتجدر الإشارة إلى أن ثورة البيانات والاتصالات، لا تعني فقط ما نشغل به أنفسنا من وسائل تواصل اجتماعي، بل ان الحجم الهائل للبيانات، وتطور قدرة الأنظمة المعلوماتية لاستيعابها وتخزينها وتحليلها، أدى ذلك لتطور وسائل التعامل مع «البيانات الضخمة». والتعامل مع تلك البيانات يعني بالإضافة لتبويبها، تحليلها بعمق، واستخلاص اتجاهاتها، وتجسيدها ليستخلص فريق اتخاذ القرار ما تختزنه تلك البيانات الضخمة من معانٍ وتوجهات! وبذلك يصبح اتخاذ القرار قائمًا على تلك البيانات، وليس بناء على انطباعات أو تعميمات غير مستندة إلى واقع. استناد القرار للبيانات الضخمة يعني أنه قرار يستند إلى واقع. ولا مهرب من الواقع، سواء أكان قاتمًا أو ورديًا زاهرًا. وبالتأكيد، فإن القرار الحصيف يُتخذ للارتقاء بالواقع القائم لأفق أفضل.
هناك من يطرح الكثير من الأسئلة حول «حساب المواطن»، وبعض تلك الأسئلة لا إجابات له حتى الآن، والسبب أن الإجابات ستتكشف بعد تحليل البيانات الضخمة، وسنعرف الكثير من الحقائق عن الأسر وواقعها الاقتصادي. وفي ظني، سيكون هذا أشمل وأدق جهد لجمع البيانات أجري في تاريخنا الحديث. ولعل من المفيد الإشارة إلى أن القائمين على حساب المواطن، يعلنون عن بعض البيانات التي تتوالى تباعًا، منها مثلاً أن عدد من سجل يتجاوز ثمانية ملايين شخص، وأن عدد المستفيدين من الضمان الاجتماعي يتجاوز 2.5 مليون مواطن ومواطنة. والبيانات ستكتمل وتعلن تباعًا، وهذا إيجابي، أما الأكثر إيجابيةً أن ما سيتخذ من قرارات حول «حساب المواطن» سيخرج من رحم البيانات، أي من رحم الواقع المعاش، وليس من انطباع التجارب الشخصية لموظفين يجلسون خلف مناضد!
وهكذا، نجد أن من «طار بالعجة» وأخذ يطلق أحكامًا مسبقة عن «حساب المواطن»، سرعان ما سيكتشف أن مع دخولنا حقبة «اتخاذ القرار بناءً على البيانات»، أن لا مكان للانطباعات السطحية. فمثلاً هناك من قال إن «حساب المواطن» للفقراء، وهناك من قال إن هدفه «جمع البيانات عن دخل المواطنين تمهيدًا لفرض ضرائب»، وهناك من أثار غبارًا في وسائل التواصل الاجتماعي بأن عشرين ألفاً لا تكفي! لا اعتراض لدي عن أن يعبر كل منا عن رأيه، غير أن النقطة هنا أن «حساب المواطن» مبادرة متقدمة، ليس فقط اقتصاديًا وماليًا، بل كذلك تقنيًا، وعلى المستوى الإداري فيما يتصل بآلية اتخاذ القرار، بل وحتى فلسفته. فيما يتصل بالجوانب الاقتصادية والمالية فقد تناولها هذا الحيز، وعرجنا في الفقرات السابقة على تقنية البيانات الضخمة، أما آلية اتخاذ القرار الجديدة فتمثل منعطفًا رئيسًا، بأننا أمام مرحلة وضع السياسات بناء على معطيات الواقع كما هو وليس حسب تصور متخذ القرار عنه. هذا أمر غاية في الأهمية. وما يثبت ذلك، أن «حساب المواطن» تشرف عليه لجنة وزارية مكونة من ثلاثة وزراء، هي بانتظار اكتمال بيانات التسجيل، وبناء على معطيات تلك البيانات سترسم السياسات.
إن سمع أي منكم عن آلية مشابهة طبقت من قبل فليخبرني. أما الأهمية الحرجة لذلك، فهي ارتكازية من حيث إننا حتى نرتقي بواقعنا ونحسنه، فلا بد أن نعي هذا الواقع، ليس وعيًا سطحيًا انطباعيًا حدسيًا، بل وعيًا تفصيليًا قائمًا على معطيات الواقع التي تظهره كما هو، وليس كما قد يتهيأ أحدٌ. وبذلك بالإمكان القول إن مزايا «حساب المواطن» تتجاوز إيداع نقد في الحساب، إلى رفع كفاءة اتخاذ القرار لأفق ينطلق من حقائق الواقع.