آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 4:07 م

فنانون.. بين لقمة العيش والجنون

محمد معتوق الحسين *

يقول المصمم «سول باس»: ”أنا أريد أن أصنع أشياء جميلة، وإن لم يكترث بها أحد!“ لأعوام طويلة، تعاملت مع الكثير من المصممين، في مختلف مجالات التصميم الصوري والحركي. وكنت دائماً أدخل في صراع معهم حول الشكل الذي يجب أن يظهر به العمل. ولأنني «الزبون»، كنت أصر إنني على حق، وكان يزعجني كثيراً ذلك العناد الذي يواجهني به معظم المصممين. مقولة «سول باس» هذه شرحت لي الكثير عن تمرد المصممين، والفنانين بشكل عام. فللفنان نظرة فنية خاصة، قد يخالفه فيها العالم. لذلك فهو يعيش في صراع دائم بين رغبته في إرضاء الزبون، وشغفه بخلق الصورة الفنية المثالية كما يراها. في نظري، هذه المفارقة قسّمت الفنانين إلى قسمين: «المُحابون» الذين يسعون لإرضاء الزبون قبل أي شيء ولو على حساب ذوقهم الخاص، و«العنيدون» الذين يسعون لتحقيق ذواتهم الفنية بغض النظر عن رأي العالم.

ولكن أيّ المذهبين على صواب؟ كما هو الحال في الكثير من المواقف المتطرفة، فإن كلا التوجهين له إيجابياته وسلبياته. أما المحابين فيستفيدون من تدفق الزبائن وغزارة الطلب، والذي يعني الدخل المادي المضمون. إلا إن المحابين يضحون بوقت ثمين لا يستثمرونه في صقل مهاراتهم ولا يعمقّون به تجربتهم الفنية، وذلك لانشغالهم المفرط بطلبات الزبائن «العادية» أو «الماسخة»، مما يحرمهم بلوغ درجة الإبداع. التقيت بالكثير من المصممين الذين لا يكلفون أنفسهم أكثر مما طلبه الزبون، مهما كان ذوقه مروعاً. من ناحية أخرى، يستمتع «العنيدون» بممارسة جنونهم الفني بحرية، فيجربون ويستكشفون وتتكامل شخصيتهم الفنية بشكل أقوى. إلا أن لذلك ثمن. فجنونهم مكلف مادياً، حيث تقلّ العوائد التي يحصلون عليها، جراء نفور الزبائن منهم. هذا فضلاً عن العزلة الاجتماعية التي تصيبهم بسبب غرابة أطوارهم.

وقد يصبر الفنان العنيد لسنوات طوال، قبل أن يُدرك العالم إبداعه ويعترف بعبقريته، وقد يموت قبل أن يحصل له ذلك! إذاً ليس ضرورياً أن يكون أحدهما مخطئاً والآخر مصيباً. فالأمر عائد للفنان نفسه في الاختيار بين توظيف فنّه كوسيلة ل «أكل العيش»، أو اعتناقه ك «رسالة سامية» تستحق التضحيات. من تجربتي البسيطة، أظن أن الفنان الذكي، هو الذي يسعى إلى شيء من التوازن في عطائه الفني، دون إفراط أو تفريط. فهو بذلك يحافظ على قبوله الاجتماعي وحضوره العلني كفنان، كما يحافظ على الدخل المادي المعقول الذي يعينه على العيش. وفي الوقت ذاته، هو يمارس جنونه الذي من خلاله يتكامل ويحقق ذاته، على أمل أن يلامس سماء الإبداع. وسواء كنّا محابين أو عنيدين، المهم هو أن نستمر.. في صنع الأشياء الجميلة.