ضبط الانفعال
قال تعالى: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَ الْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين﴾ «آل عمران الآية 134».
الخلافات المتصاعدة بدرجة عالية على مستوى العلاقات الأسرية والاجتماعية أضحت سمة بارزة في مجتمعاتنا، والحلقة المفقودة والحقيقة الغائبة هي العوامل المؤدية إلى تحول التواصل إلى قطيعة وكراهيات، فما الذي يتجه بنا نحو ضفة التوتر والتأزم في علاقاتنا مع ما هي عليه من أكلاف غالية، من قلق نفسي واستنزاف لجهودنا؟
الباعث الأول هو الانتصار لذاته التي سقطت من مكانها العالي بسبب خلاف أو حوار متأجج أو إساءة وجهت له، ولن يسترد كرامته ومكانته بين الآخرين - كما يزعم - إلا بعد أن يبادله اللكمات الكلامية وطعنات الصراخ والشتيمة.
والباعث الثاني هو روح الانتقام والتشفي من الآخر ممن يحمل له مشاعر سلبية اكتوت بها الطيبة والمحبة في قلبه، وتحولت إلى كراهية وحقد لا يستطيع أن يتخلص من أنفاسه الملتهبة التي تحرقه، إلا بتنفيسها باعتداء معنوي يصرعه أرضا على بسيطة الإهانة، والتي تسجله بطلا لا يسكت عن توجيه أي إساءة أو انتقاص له يحوله لطرف ضعيف، يتطاول عليه الكثير بعد ذلك بعد أن رأوه مهينا وعاجزا عن الرد.
والباعث الثالث هو التربية الأخلاقية الخاطئة التي تلقاها وتربى عليها، فما كان يراه من مصدر قدوته من والديه ومعلميه في تعاملهم لم يكن يتسق مع القيم والمثل النظرية التي سمع عنها ونشأ عليها، مما ولد في قلبه الضغينة والكراهية لمن يختلف معه مهما كانت الظروف والأسباب، ولم يعتد يوما على مبدأ التسامح والعفو والتجاوز عن إساءة الغير في لحظة جهالة وعصبية، بل كان يواجه الإساءة بفكرة الرد القاسي والكيل بالضعف لمن يفكر يوما أن يستبيح حدود حقوقه والتعدي على شخصيته، هكذا تربى وهكذا نشأ!
الباعث الرابع هو إدارة النقاشات والحوارات وفق ضبط الهدوء والاحترام والإقناع، والذي نفتقده كثيرا - وللأسف - في حواراتنا التي تتحول إلى سجالات واستعراض عضلات فكرية، فأخذنا تبادل الرؤى من التلاقح والإنضاج إلى العنتريات وتسجيل الانتصارات الوهمية، مما يحول الحديث المتناوش من الأطراف المتحلقة إلى صراع يضرب فيه تحت الحزام، ويغمز فيه من قناة الغير وتبرى أسنة التسقيط.
نحتاج إلى دعوة تثقيفية إلى مبدأ احترام الآخر مهما كانت الأسباب الداعية إلى إهانته وتقزيمه وتجاهله، فمقابلة الإساءة أو سوء الفهم بما يؤجج الوضع ويأزمه لن تجدي نفعا، بل تعقد العلاقة وتصيبها بالتعري والضعف، ويمكن في وقت لاحق تكون النفوس فيها قد تخففت من الانفعال والتعب أن يتم مناقشة الإشكال أو الخطأ في حقه، ففي حينها يمكن للتسامح وقبول الاعتذار أن يسود فيتجاوزان الخلاف.
الشخصية القوية تحافظ على مكانتها المرموقة بين الآخرين بهدوئها وحكمتها واتزانها وليس بطيشها وتهورها، وهذا ما ينبغي ترسيخه في طريقة تفكير شبابنا وسلوكياتهم، فالقوة لا تعني الفظاظة والعنف بأنواعه والصلافة والتطاول، بل هي القدرة على ضبط العقل أن يطيش والجوارح أن ترتكب ما يعض عليه أنامل الندم، ويبقى في اللحظات الصعبة محافظا على وقاره فلا يستجيب لتفاهة أو جهل الآخر، فينزل معه إلى مستنقع الإساءة وردات الفعل العنيفة، بل يترفع عن كل ذلك بارتداء الصمت والحكمة دثارا، ويفسح المجال لاتزانه أن يبقى متسيدا للموقف.
ثقافة التسامح وتجاوز الإساءة تجنب الإنسان ويلات ومصائب تنصب على رأسه، فالتوترات المستمرة في علاقاته ستستنزف قواه وتهدر وقته، ويتسلل إلى قلبه شيئا فشيئا الخشونة في التعامل، وقد تصل مشاعره لمرحلة الأحقاد.