الرؤية والإحلال وحساب المواطن.. ونحنُ
مِنا من يُقسم كل شيء لفسطاطين، إما معي أو ضدي! فإن كنت توافقه الرأي، أو تقول ما يجول في خاطره، فأنت في فسطاط الحق، وإلا فأنت في خسرانٍ مُبين! ماذا أبقى هؤلاء لتبادل وجهات النظر؟ وماذا أبقوا للتثاقف؟ وماذا أبقوا حتى لمحاولة فهم المستجدات من حولنا؟! جماعة «لا أريكم إلا ما أرى» هم فريق مصادرة الرأي، وهم دعاة جمود المجتمع، وهم دعاة الانغلاق. ليس في هذا الكلام أي شدة، وسأعطي أمثلة مما يجول حولنا من مستجدات لصيقة ومسيسة بكلٍ منا، فعندما صدرت الرؤية، عارضها البعض، وذاك رأيه، وكذلك من حق من يؤيده أن يعرب عن تأييده له. والعكس بالعكس.
ومع ذلك، لا بد من بيان أن إعادة الهيكلة الاقتصادية ضرورة لا فكاك منها. وهي عملية تتوالى خطواتها، وليست مجرد إجراء محدد يتخذ وينتهي الأمر، بل هي طريقة لإعادة تأهيل الاقتصاد ليصبح أعلى قدرة على النمو والمنافسة. وليس خافيا أن ما نادت به «رؤية المملكة 2030» تفصيلا، لم يتجاوز من حيث الأهداف ما نادت به الخطة الخمسية الأولى التي صدرت في العام 1970. ولذا، فيمكن القول إن هناك من انتظر عقودا حتى يأتي زخم لتحقيق أهداف بقيت - لحدٍ بعيد - لعقود طويلة حبيسة الأوراق. وبالقطع، فإن هذا لا يقلل من الجهود التنموية والاقتصادية التي حققتها المملكة، لكنني أتحدث تحديدا عن أهدافٍ مُعلنةٍ رسميا منذ قرابة نصف قرن ما برحت بحاجة لأن تنفذ بالكامل.
والحالة تتكرر عند الحديث عن تسريح بعض مؤسسات القطاع الخاص للمواطنين، فما أن تتحدث - تلميحا أو تصريحا - حتى تخرج كتيبة مناصرة الاستقدام للدفاع عن حرية القطاع الخاص في الاستقدام وحريته في الفصل والتوظيف. ولا بأس بأن يعتقدوا بذلك، ولكن دون «شخصنة» الموضوع، ودون تجاوز المرتكز الأساس لنجاح أي اقتصاد، هو أن يسعى للتوظيف الكامل لأبنائه، وليس أن يُؤثر توظيف «أبناء الجيران»، وذلك ارتكازا على النظرية والممارسة الاقتصادية، ودون طرح كليشيهات خشبية «تصلح للتدفئة في هذه الأيام الباردة» من قبيل عدم مواءمة مخرجات التعليم مع متطلبات سوق العمل، وهي مقولة يسفهها الواقع، عند النظر لمن نستقدم، ولأبنائنا العاطلين ومعظمهم، نحو ثلثين من حملة الشهادة الجامعية فما فوق، فأصلا نرى خريجين سعوديين من أرقى جامعات العالم عاطلين، ونرى خريجي طب بشري وطب أسنان وهندسة عاطلين! ولذا، لا بد من ضرب طوق حول سوق العمل السعودي يقوم على سياسة إحلال المواطن محل غير المواطن، بتؤدة وتدرج وبما يحقق مصلحة سوق العمل والاقتصاد الوطني، ولا أحد هنا يتحدث عن حلول نزقة وانفعالية، فالحديث عن الإحلال دام دهرا، ومع ذلك فالاستقدام يتوسع ويسبح في فلك آخر، لا يبدو أن له علاقة بسوق العمل السعودي أو توجهات الاقتصاد السعودي، ولذا فنحن أمام بطالة من جهة، ونكابد من استشراء التستر من جهة أخرى، بما ينهك قوى اقتصادنا، الذي ما يلبث أن ينمو حتى تتكاثر عليه التحويلات من كل حدب وصوب!
والآن، نرى من يسعى للنيل من «حساب المواطن»، ولا أقول ينتقد فالانتقاد البناء يكون على أسس، فهناك من قال إنه استجداء! ومن قال إنه مبلغ لا يسوى! تلك وجهات نظر، ولكن علينا أولا أن نفهم ما هي الأسس لحساب المواطن. أقول هذا، للحديث عن «حساب المواطن» من حيث المبدأ وليس مادحا أو قادحا، على الرغم أن لي وجهة نظر سأعرضها. ولا اعتراض أن يؤيد أحد «حساب المواطن» أو يعترض عليه، فذلك حقه، وفي الحقيقة ذاك أمر لا يعنيني، إذ ان ما يعنيني أن نفهم أولا، ونستفيد من وجهة نظر بعضنا البعض بهدوء، وبدون نزق واتهام ومصادرة.
لا سيما أن فكرة «حساب المواطن» جديدة، فهي تقوم على تقديم الدعم مباشرة ونقدا لمن يستحقه، في حين أن الطريقة التقليدية هي بطاقات تموينية كما هو الحال في العديد من الدول بما فيها دول عربية كمصر والكويت، على سبيل المثال لا الحصر. إذا، نحن أمام ممارسة جديدة علينا السعي لفهمها بما يوفر أرضية وقناعة لتكوين رأي معتبر، حتى يكون النقد بناء لتطوير وتحسين الممارسة، وإن كانت قناعة فتكون مرتكزة على وعيٍ وفِطنة.