الإمعان في تهشيم الذات
”حكمةٌ أخرى وضربٌ آخر من حماية الذات، تتمثل في أن يتلافى المرء قدر الإمكان رد الفعل، وأن ينسحب من كل الوضعيات والعلاقات التي تجعله مضطرا إلى تعليق حريته، ومبادرته الشخصية، ليتحول إلى مجرد آلة ردة فعل“.
رغم أن الحكمة التي يجزيها لنا نيتشه أعلاه، واضحة، مباشرة، وسهلة، إلا أن الكثيرين يتجاهلونها، ويسيرون على العكس منها.
هي وصفة غير معقدة لمن يريد أن يحمي ذاته من التتفيه ومن الوقوع فريسة الجهل الممنهج. غير أن الأغلبية يبدو أنها تمعن دون دراية، في تهشيم ذواتها، وخنقها ببطء، يوما بعد آخر!
الاغتيال المنظمُ للذات يمارسه الواحد منا يوميا، في طريقة حياته الرتيبة، وحريته التي يتنازل عنها طوعا من أجل مجاملة أو مسايرة الآخرين. وعقله الذي صيره مجرد علبة لا تبصر نور أفكار الآخرين والمختلفين، وإنما تكتفي بما تضعه السياسة أو القبيلة فيها من مواد معلبة، عتيقة، وقابلة للانفجار يوما ما! أضف لذلك، الدخول المبهمُ في قفص ”التقانة“. تلك الغرفة السوداء المعتمة بحجم كف اليد، والتي ما أن تقبض عليك، تراها تأخذك بكلك نحو ثقبها الكوني الخاص، والمؤثث من السديم اللا متناهي.
هذا المشهد المتهاوي يضع الفيلسوف أمام مكابدات عظيمة. كونه الوحيد الذي يبصر الخراب الذي يراه الآخرون فردوسا.
إن ”المكابدة الحديثة هي هكذا، مكابدة أمام هوة الحياة، لأنها محرومة الآن من أهدافها وقيمها.. حقرت القيم العليا“، كما يشرح جان غرانييه في حديثه عن نيشته، مستشهدا على عمق هذه المشكلة، بقول نيتشه ذاته ”لكي نبدأ، سيبدو العالم فاقدا قيمه، نحن نملك الشعور بذلك على الأقل، بهذا المعنى وليس بغيره، نحن متشائمون، مع إرادة الاعتراف دون تحفظ بهذا الانزلاق القيمي، بدل أن نرتل على الطريقة القديمة، لا أدري أي تعزية وهمية. بهذا الفعل ذاته سنجد الرغبة التي ستدفعنا إلى خلق قيم جديد“.
الدافعية لخلق قيم جديدة لا تتم إلا من خلال إبصار علل ما ندعيه من ”قيم عُليا“، هي في الأساس ضربٌ من النفاق، وسلوك مرضي نفساني. ودون ”إرادة الاعتراف“ كما يقول نيتشه، لن يكون هنالك ضوء في السماء!