أي ثقافة نريد؟
تلعب الثقافة بشكل عام دورا رئيسا في التحولات الاجتماعية، ومن أجل ذلك فإنه لا بد أن تكون الثقافة السائدة في المجتمع متوافقة مع اتجاهات التحول والتغيير وإلا فإنها تتحول إلى أحد معوقات التغيير. والثقافة بطبعها حتى تنضج في المجتمع وتشكل جزءا من وعيه فإنها بحاجة إلى وقت كاف وإلى جهود مكثفة ومتناسقة حتى تحقق هذا الهدف. المجتمع السعودي يمر بمرحلة تطور وتحول كبيرة في هذه المرحلة، وينبغي أن تلعب الثقافة دورا محوريا في هذه العملية من أجل أن تعمق أهدافها، ويكون التحول نتيجة وعي عام وشامل، وليس مرهونا بحملات إعلامية قصيرة المد في التأثير.
تتميز الثقافة الدافعة للتغيير والتحول بعدة مواصفات تجعلها قادرة على الاستجابة للتفاعلات الاجتماعية والتعاطي معها. أول هذه الصفات هي أن تكون ثقافة مرنة وتفاعلية، وليست وعظية جامدة، فهي تعتمد على التعاطي المتبادل والحوار المنفتح، وتشجع على التواصل والتفاعل والنقاش، وتطرح الأفكار بمرونة بحيث تكون لديها القابلية للتطور والتشكل حسب التحولات التي يشهدها المجتمع. الثقافة المطلوبة في التغيير أيضا هي ثقافة تستند إلى العلم لا الخرافة والجهل، وتعتمد على تقديم المعلومة بوضوح وشفافية، بحيث تكون قابلة للتحليل والفهم والاستيعاب، وليس من خلال الحفظ والترديد دون فهم أو وعي، وبالتالي فهي ثقافة استدلالية تتعاطى مع النقد كأسلوب تصحيحي يقوم ما يعتريها من عوج.
تتكامل الثقافة المطلوبة مع ما يدور في العالم من أفكار وثقافات، وبالتالي فهي تتعاطى مع الثقافات الأخرى بكل إيجابية ومصالحة، وتطور ما لدى المجتمعات الأخرى من تجارب وأفكار، وفي المقابل تقدم نتاجها ومخزونها بأسلوب حضاري. تتجاوز الثقافة التي نريد حالة الصدام مع الآخر، واستعدائه ومهاجمته والانتقاص منه واستهجانه، بل تتجه نحو الاعتدال والفهم الواعي المتحضر. وتتميز بأنها ثقافة واثقة تعبر عن تراث وتجربة المجتمع، وليست ثقافة تضعف أمام ما يواجهها، وبالتالي فهي قادرة على التعبير عن عناصر قوتها وتجاربها بصورة قوية. الثقافة التي نريد ينبغي أن تكون انعكاسا وتعبيرا عن كل مكونات المجتمع المتعددة، منفتحة على تراثه وتمايزاته، وقادرة على إعادة تشكيل كل ذلك ضمن سياق وطني متجانس ومتوافق. إن ثقافة التحول يلزم أن تكون ثقافة مستقبلية وليست ماضوية، وعليها أن تساهم في تجسير العلاقة بين تاريخ المجتمع وتراثه وبين قضاياه المعاصرة وتطلعاته المستقبلية، بحيث تكون قادرة على تجاوز الإشكالات الناتجة من الانتقال من مرحلة إلى أخرى وما يترتب عليها من صدامات وصراعات ثقافية. وهي ثقافة بالتالي تتعاطى مع أدوات العصر بإيجابية وبصورة فعالة، غير مترددة في توظيفها بما يخدم أهدافها. الثقافة التي نتحدث عنها أيضا ينبغي أن تمتلك المرونة والقدرة على التعامل مع مختلف مجالات العمل الثقافي كالفنون الجميلة والنشر بمختلف صوره والتمثيل والمسرح والموسيقى والموروث الشعبي وغيرها من أنماط العمل الثقافي المتنوعة.
تنفتح الثقافة التي نريدها على المبادرات والتجارب الأهلية في العمل الثقافي وتتفاعل معها بصورة بناءة وجادة، فمع وجود المئات من المكتبات الشخصية والمتاحف التي يمتلكها ويديرها أفراد، وفيها من المقتنيات الأثرية الشيء الكثير، فإنه من المهم أن يكون هناك سبل لدعم هذه المبادرات وتحويلها إلى مراكز ثقافية تساهم في خلق أجواء وبرامج ثقافية متنوعة. المنتديات الثقافية أيضا تعتبر أحد المناشط الأهلية المنتشرة في المملكة، ويمكن أن تكون رافدا مهما للعمل الثقافي إذا ما بلورت صيغا مناسبة للتعاون بينها ومعها. وقد سبق أن قام الأستاذ عبدالمقصود خوجة، - صاحب اثنينية خوجة بجدة - بمبادرة قبل خمس سنوات جمع فيها أصحاب المنتديات الثقافية مع رؤساء الأندية الأدبية في المملكة في محاولة منه لتفعيل التعاون والعمل المشترك بينهما.
لا شك أن مشروعا ثقافيا بهذه الصورة يتطلب جهودا كبيرة ووضوحا في الاستراتيجية ومؤسسات فاعلة قادرة على تحويل الخطط الثقافية إلى برامج عملية ضمن رؤية واضحة. ويتطلب قبل ذلك كله إيجاد بيئة حرة تتمكن من استيعاب مختلف المبادرات ونماذج الإبداع الثقافي، وتفعيل الطاقات المتجددة بما يساهم في تشكيل مخزون ثقافي متواصل ومتجدد. التحول الثقافي بالتأكيد هو بوابة مرحلة التحول التي نشهدها، فهو الذي سيشكل الضمانة لاستمرارية التحول والتطور والتقدم وديمومته في المجتمع.