آخر تحديث: 12 / 12 / 2024م - 10:30 ص

ترمب... «الأخ الأكبر»

ميرزا الخويلدي * صحيفة الشرق الأوسط

هذه الرواية لا تموت، بل لا تشيخ ولا تغفو في أدراج النسيان، تنبعث من جديد كأنها كُتبت بالأمس، تستمد قوتها من قوة المجتمعات التي تمثل الحرية شيئًا مقدسًا بالنسبة إليها، هي رواية «1984» لجورج أورويل، التي كُتِبَت قبل 68 عامًا لكنها انبعثت كمارد حين شعر الأميركيون قبل أيام أن قيمهم أصيبت في الصميم، وأن هناك مخاوف من هيمنة نظام تسلطي لم يألفوه يومًا لكنه ظلّ شبحًا مرعبًا يقلق راحتهم.

شهدت هذه الرواية ولادة جديدة، وتصدرت من جديد قائمة «الأعلى مبيعًا»، حين شعر الأميركيون أن إدارة الرئيس الجديد دونالد ترمب قد تخضعهم لنظام سلطوي جديد.

الرواية تطرح لأول مرة مصطلح «الأخ الأكبر» كتعبير عن سلطة غاشمة تمارس القهر والتعسف في استعمال السلطة، وتتجسس على شعبها وتنتهك الحريات المدنية الخاصة للناس. وتجبرهم على «التفكير المزدوج»، أو قبول رؤى لا تنسجم مع الحقيقة.

كلمة واحدة استخدمتها مسؤولة في البيت الأبيض أطلقت موجة من الاحتجاج، وذلك حين استخدمت كيلي آن كونواي المسؤولة البارزة في البيت الأبيض تعبير «الحقائق البديلة» في برنامج «واجه الصحافة» على قناة «إن بي سي» خلال مناقشةٍ عن حجم الحشد الذي حضر مراسم تنصيب ترمب، قائلة: «نشعر بأننا مضطرون للخروج لتنقية الأجواء وعرض الحقائق البديلة».

حسنًا، هذا تعبير لا يمكن أن يمرّ في مجتمع حرّ. غرّدت شركة «مريام وبستر» ناشرة القواميس الشهيرة قائلة: «الحقيقة هي معلومة تعرض باعتبارها تصف واقعًا موضوعيًا»... أي أن الحقائق البديلة شكل من التلبيس والتحريف. في رواية «1984» يصف جورج أورويل الازدواجية بأنها «القدرة والحاجة للتصديق التام بفكرتين متناقضتين في الوقت نفسه»، هذا ما يسعى له أي نظام تسلطي.

الأميركيون لم يألفوا نظمًا عسكرية كجيرانهم اللاتينيين الذين كتبوا ملاحم أدبية، أبدعت في كشف الطغاة وتعرية سياساتهم، روائيون مثل أوغستو روا باستوس، الذي قدّم رواية «أنا الأعلى» عام 1974، وتتناول شخصية ديكتاتور باراغواي خوسيه دي فرانثيا الذي حكم البلاد بين عامي 1814 و1840، ومثله الأديب والشاعر والصحافي الغواتيمالي ميغل أنخل أستورياس، الذي كتب رواية «السيد الرئيس» التي صدرت عام 1946، وتناول فيها سيرة «كابريرا» الذي حكم بلده غواتيمالا ل20 سنة حكمًا ديكتاتوريًا غاشما، مرسِّخًا القمع والخوف والفساد. والكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، الذي قدم رواية «خريف البطريرك» الصادرة عام 1975. والروائي والصحافي البيروفي ماريو بارغاس يوسا، الذي قدم رائعته «حفلة التيس» التي صدرت في عام 2000، ونجح من خلالها في ترصد ديكتاتور الدومينيكان، تروخيو، الذي حكم بلاده 31 عامًا بالقهر والجبروت والإذلال.

مع ذلك فإن الأميركيين كانوا حسّاسين جدًا بشأن وجود نظام يمكنه التعرض لحرياته ويمس قيمهم، وعّبر عن حسّ مفرط تجاه قيم الحرية والعدالة والمساواة، وانتصر لهذه القيم في وجه سياسات طارئة جاءت تبث الخوف والرهبة والعزلة، عبر سياسات إقامة الجدران، ومنع التواصل الإنساني، وإغلاق الأبواب أمام المهاجرين، وتعميم الخوف منهم.

خرج الأميركيون للشوارع، وملأوا المطارات، وتطوع عشرات المحامين للدفاع عن المهاجرين ورفع الجميع شعار «أميركا للجميع»، وما زالوا يقاومون سياسات العهد الجديد. لكنهم في المقابل، ومثلهم شعوب كندا وأوروبا، عبّروا للعالم عن انتمائهم الحقيقي لعصر التنوير والحداثة والحرية، وأن هذه القيم التي يؤمنون بها جديرة بالاحترام. وفي المقلب الآخر أشعرونا بعجزنا وضآلة مشاركتنا في المحتوى القيمي، خصوصًا في شأن احترام الثقافات والشعوب الأخرى. أشعرونا بأن الفارق هائل وكبير بين منظومة أخلاقية تتسم بالعدالة والإنصاف والتسامح، ومنظومة أخرى يستولي عليها الاستئثار والتشدد والتعالي على الآخرين. أخيرًا... في رواية «1984» نقرأ هذه الفكرة: «من المستحيل أن تؤسس حضارة على الخوف والكراهية والقسوة، فمثل هذه الحضارة إن وجدت لا يمكن أن تبقى».