ترمب وتجربة يلتسن
أحتمل أن يكون الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مسرور جدًا بسياسات نظيره الأميركي دونالد ترمب. ليس فقط لأن ترمب يحاول ردم الفجوة التي اتسعت بين البلدين منذ استعادة روسيا لشبه جزيرة القرم أوائل 2014. بل أيضًا، وربما بدرجة أكبر، لأن تلك السياسات ستؤدي - موضوعيًا - إلى تراجع الحضور الأميركي في السياسات الدولية، مما يوسع الطريق أمام بوتين، الساعي لإحياء مكانة روسيا كقطب ثانٍ في النظام العالمي.
المقارنة بين التوجهات الحالية للرئيسين تذكر بمقارنة عكسية بين الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسن ونظيره الأميركي جورج بوش، ثم بيل كلينتون خلال الفترة من 1991 حتى 1999. تولى يلتسن الحكم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. وتبنى في ولايته الأولى سياسة انكماشية محورها الاهتمام بالداخل الروسي، وإغفال دورها التقليدي في الساحة الدولية. لكنه سرعان ما اكتشف الثمن الفادح للانكماش، فقد أمست روسيا دولة ثانوية مثقلة بالديون، تلهث وراء السياسات الأميركية، بعدما كانت منافسها الرئيسي في العالم.
في المقابل، تبنى الرئيس بوش الأب ومن بعده كلينتون، سياسة دولية نشطة، حولت واشنطن إلى موجّه شبه وحيد لسياسات العالم. وأثمرت تصفية النفوذ الروسي في أوروبا وأفريقيا، وإضعافه بشكل ملموس في آسيا الوسطى والشرق الأوسط.
حين تنبه يلتسن إلى هذه الحقيقة في ولايته الثانية، وجد الوقت قد فات، ولم يعد بالمستطاع بعث الموتى. والحقيقة أنه بذل جهدًا خارقًا لإقناع الصين بالتعاون معه لإعادة إحياء القطبية الثنائية. لكن الصينيين لم يثقوا بجديته. في ديسمبر «كانون الأول» 1999، قبل أسبوع واحد من انتهاء ولايته، كان يلتسن قد خرج للتو من المستشفى، حين تحامل على أوجاعه، وقام بزيارته الأخيرة للعاصمة الصينية، في محاولة أخيرة لإقناع زعمائها بجدوى التحالف مع موسكو. لكن الصينيين المولعين بالتخطيط الاستراتيجي، لم يروا في الرجل سوى مغامر شعبوي، تثيره المشكلات الآنية، ولا يلقي بالاً للاستراتيجيات طويلة الأمد.
يبدو أن بوتين تعلم الدرس جيدًا أثناء عمله مع يلتسن. منذ توليه السلطة في مايو «أيار» 2000، ركز بوتين على استعادة موقع روسيا في الساحة الدولية عبر تخطيط صبور وطويل الأمد. ولعل مبادراتها الأخيرة في سوريا تعكس أحد الوجوه البارزة لهذا الدور الجديد.
تذكرت المقارنة بين شخصية ترمب ويلتسن خلال قراءتي لمقال يدعي أن سيد البيت الأبيض يتفاعل مع أخبار التلفزيون، أكثر من تقارير الأجهزة المتخصصة، كالاستخبارات ووزارة الخارجية وغيرهما. إنه رجل مؤمن بشخصه أكثر من ثقته بالمؤسسة التي يديرها. ولهذا يعول على انطباعاته الآنية في تكوين الآراء والمواقف. ولعله يبادر لكتابة تغريدة على حسابه في «تويتر» ردًا على ما سمعه في التلفزيون، بدلاً من تحويل المسألة إلى وزارة الخارجية أو مكتب الناطق الرسمي للبيت الأبيض، الأكثر احترافًا في هذا الشأن. وقيل إن هذا بالضبط ما حصل في الجدل المعروف حول لقائه مع الرئيس المكسيكي، الذي أُلغي بتغريدة على «تويتر».
من المحتمل أن يعيد ترمب مراجعة سياساته، لا سيما مع ما يبديه الحلفاء الأوروبيون من رفض صريح أو ضمني، فضلاً عن تململ النخبة في أميركا نفسها. من المحتمل أيضًا أن يصر على منهجه. وفي هذه الحالة فهو يوفر الفرصة الذهبية التي تمناها نظيره الروسي الطامح لتقليم أظافر واشنطن في العالم، مثلما فعلت هي بموسكو في عهد سلفه.