أجل.. علينا أن نحترمَ التقويم!
تضمن المقال السابق مجموعةً من الأسئلة حول فائدة العودة إلى الأرشيف الثقافي، أسئلة تركتها لتأملات القارئ واجتهاداته. وكان السؤال الرئيس هو: أين كنا، وإلى أين نتجه؟ ونحن نكتب، أحيانا، لنسأل، ولنتعلم أيضا. نسأل حتى لو لم تأتِ الكتابة في صيغة سؤال. يكفي أن تتخفف العبارات من يقينيتها، وأن تترك الباب مفتوحا لأكثر من احتمال وأكثر من مقاربة.
وإذا كانت الكتابة السابقة قد أثارت بعض الأسئلة حول نتاج الرعيل الأول من الكتَّاب، فإن هذه السطور معنية بالجيل اللاحق؛ أي جيل السبعينيات والثمانينيات. وهي الحقبة الثقافية الأكثر حداثة وانفتاحا وتماسًّا مع الحاضر. غير أنه لا يمكن تعميم التحولات التي سوف أرسم ملامحها على الجميع، لأنها سمات شريحة صغيرة.
وإذا كان الإنسان خلاصة أفكاره، وهو بطبيعة الحال خزان تجارب وقراءات وأفكار تساهم في تشكيل شخصيته، فمن البديهي أن يشمل ذلك تحولا في الأفكار والرؤى وطرق التعبير عنها. حيث تفرض الحياة في تقدمها تحولا دائما، وعلينا احترام التقويم، كما يقول الأديب الإسباني كاميلو ثيلا الحائز على جائزة نوبل عام 1989م.
يمكنني القول إن اندفاع البدايات يجعل المرء أشبه بزوبعة تمشي على قدمين. قد يكون الفرد مثاليا يتقد حماسة، فيجادل ساعات طويلة دفاعا عن أفكار طوباوية عصية على التحقق. وقد يكون جادا أكثر مما ينبغي. بعد سنين، وإذا كان محظوظا وأوتي الحكمة مبكرا، فسوف يكون أكثر ميلا للدعابة إدراكا منه بأن المرء بحاجة ماسة إلى ما يسميه أحد الشعراء «اللامبالاة الحكيمة البارعة» ليحتفظ بالبقية الباقية من توازنه. وليراجع قناعاته ويعيد ترتيب أفكاره. إن الجدية والتفاعل يقتضيان الوضوح. ولا يستطيع المرء أن يكون واضحا إلا إذا مارس الضجيج كاملا.
عند هذه المرحلة من النضج سيكون أكثر تواضعا، لذلك، لن يكون مستودعا للإجابات الجاهزة. وقد يقلّ كلامه ويصبح أكثر صبرا وقدرة على الإصغاء. عندئذ لن يتكلم بعشرة أفواه. وقد لا تغريه إن كان قد أدرك عصر الإنترنت مماحكات المرابطين على ثغور تويتر وفيسبوك بالمشاركة في جدال عقيم غير منتج. ناهيك عن حوار الطرشان في البرامج الحوارية العربية. سيدرك أن قراءة كتاب أو مشاهدة مسلسل كوميدي أفضل من كل ذلك العبث غير المنتج. لذلك يصبح صموتا كالأسماك.
قد يكتفي كقارئ متابع بقراءة عناوين بعض المقالات، لأنه يعرف مضامينها سلفا. سيكون انتقائيا يبحث عما يدهش، وهو قليل. وككاتب سوف يجد صعوبة في اختيار موضوع الكتابة، مع أن المواضيع ملقاة على قارعة الطريق.
هل انتقل من مرحلة «توقد الروح» إلى مرحلة «توقد الوعي» ولذلك فقد لياقته للرقص فوق الأنقاض؟ ربما. فما الذي أراد تحقيقه يوم كان أكثر اندفاعا؟.
كان آنذاك يطمح في أن يجعل الناس نسخة منه، كما يحاول بعضهم هذه الأيام. مع فارق كبير هو أن أبناء ذلك الجيل، وهذه واحدة من مآثرهم، لم يتخذوا العنف والتدمير وسيلة للوصول إلى ما يريدون، كما يفعل التائهون الجدد.
كان يطمح كذلك في أن يرتب العالم وفقا لتصوراته الخاصة. اليوم لم يعد دم «دون كيخوته» يجري في العروق فيحرضه على مناهضة الزيف والتفاهة. يدرك أن ذلك فوق طاقته، وأن طواحين الهواء لن تتوقف عن الدوران المراوغ. لم يعد يحلم بتحقيق نعيم على الأرض، أو بمناهضة «العتمة» المخيمة في بعض الأذهان.
أصبح أشبه بجلال الدين الرومي الذي يقول: «بالأمس كنت ذكيا فأردت أن أغير العالم. أما اليوم فانا حكيم وأريد أن أغير نفسي»! أو ربما أراد أن يحذو حذو هنري ميلر الذي اعترف أنه لم يعد يبذل جهدا لإقناع الناس بوجهة نظره عن الأشياء ولا لمعالجتها. موقف شبيه بما تطلع إليه فرانس كافكا من قبل وهو: «الوقوف في سكون قانعاً بأن يكون في استطاعتي التنفس» أو بطموحه الذي عبر عنه بقوله: «لا أتطلع إلى شيء سوى تكريس نفسي في الورق والكتابة».
«لا تستطيع أمام الغباء أن تصنع شيئا»! هذا ما يقوله هنري ميلر. يعرف تماما ذلك الغباء الذي يشير إليه ميلر. ويعرف أنه يستعصي على العلاج، وأن كل المحاولات التي تبذل لعلاجه ليست سوى مُسَكِّنات. ثم من ذا الذي يملك الرغبة أو القابلية للجدال في عالم تعمه الفوضى. إن صخب تلك الفوضى قد طغى على كل الأصوات.