رأسمال رمزي للبيع
لا تستخفوا بالعقول التي تدير حسابات تويترية تحت أسماء مستعارة أو واقعية بجرأة تلامس حد التهور. خصوصا تلك التي تبدي ذكاء استثنائيا. فهي ذوات مؤهلة ثقافيا، وقادرة على التأثير النفسي والاجتماعي في ذهنيات ووجدان مرتادي تويتر. كما يعكس أداء بعض تلك الحسابات تمكُن أصحابها من أدوات التأثير، والرصانة في الطرح، والقدرة الكبيرة على متابعة الأحداث العالمية والمحلية بشكل محير. ولا يخفى أن بعض تلك الحسابات ليست فردية بل تديرها مجموعة من الموظفين المحترفين في تشكيل الرأي العام، ولها مرجعية مؤسساتية تبدو على درجة من الوضوح. وبالمقابل هناك حسابات شخصية لأفراد يختزنون من المعارف والمواهب والقدرات ما يمكن أن يُعرض كرأسمال رمزي للبيع. وهي أسماء معروضة بشكل معلن في سوق دولية تجيد استثمار تلك العقول وتوظيفها في ما يُشبه الإعلان عن وظيفة معلومة النيات.
يعرف أصحاب هذه الحسابات قيمة بضاعتهم الثقافية. ويدركون جيدا حاجة مختلف الجهات الراغبة في تشكيل الرأي العام إلى خدماتهم. ولذلك عندما يطرحونها في سوق تويتر يراهنون على عدة قوى ستساومهم عليها. فهم بمثابة الأبناء المعروضين للتبني. وعلى هذا الأساس يلوحون بقدراتهم في كل الاتجاهات. ولا مانع لديهم أن يجعلوا رأسمالهم الرمزي في خدمة قوة محافظة أو فئة متحررة. فبضاعتهم معروضة في مداد لمن يدفع أكثر ويقدم امتيازات أكبر، وليس لمن يراهن على منظومة قيم. المهم أن ينعقد بينهم وبين الجهة الراغبة في الشراء ميثاق المصلحة المتبادلة. ذلك الميثاق الفاوستي الذي تتعدد صوره ومواثيقه وتتسع بنوده باتساع الخدمات المؤداة. حين يبيع الانسان روحه للشيطان مقابل مصلحة تبدو ظاهريا ووقتيا صفقة رابحة، لكنها على المدى البعيد ترتد على من تصور أن بإمكانه الرقص مع الشياطين وعقد الأحلاف معهم. لأن الصغير دائما هو الذي يدفع ثمن التحالف مع الكبار على المدى البعيد.
لا رهان على الأخلاق أو المعرفة في ذلك التعاقد. وهذا هو ما يفسر وجود حسابات نشطة وفاعلة ولافتة لكل القوى. باختلاف توجهاتها واهتماماتها وأجنداتها. أي الجهات التي تملك الملاءة المالية والذخيرة المعلوماتية لتزويد هذا الحساب أو ذاك بها. وذلك لتأكيد قدرته الخارقة على استجلاب المعلومات وتوظيفها في السياق أو القضية المراد تحريكها. وكذلك لفت الانتباه إلى فرادة أسلوبه وجرأته وخبراته التقنية ليحقق الشعبية المطلوبة. بحيث يتحول إلى مرجعية في حقل من الحقول. وهذه مهمة لا يتقنها إلا الأذكياء، الذين وطنوا أنفسهم على القراءة والمتابعة والتحليل ودراسة أغوار النفس البشرية. وإن بدت بعض تلك الحسابات متمادية في الغوغائية وكيل الشتائم. إلا أنها في العمق تؤسس لخطاب ثقافي مؤثر. وذلك بسبب وجود رأسمال ثقافي متراكم يؤدي وظيفته الاستعمالية في مثل تلك الظروف المحتمة بالتجابه مع الخصوم.
في الظاهر يبدو الحساب وكأنه صوت أحد الغاضبين أو المنذورين للدفاع عن قضية. أي مجرد حساب فردي يستعرض فيه مثقف محتقن بالمعلومات براعته في التعامل مع موقع تفاعلي من مبتكرات اللحظة المعولمة، المزدحمة بمخترعات الحداثة الفائقة. لكن القراءة التحليلية الواقعية تقول غير ذلك فهو حساب مدروس، وممنهج، وله خطته على المديين: القصير والطويل. حيث يتم تزويده يوميا بالمواد الاعلامية اللازمة لتحريك الرأي العام باتجاهات مقصودة. وإثارة قضايا تُبقي على حالة التجابه. ويُراعى فيه الحفاظ على منسوب استفزاز الآخرين. أي استدامة حالة الإثارة التي تبدو ضرورية لتنصيع صورة صاحب الحساب، باعتباره أحد المدافعين عن منظومة من المبادئ، المبشرين بمتوالية من القيم. الأمر الذي يؤهله لأن يكون أحد نجوم تويتر المؤثرين. بمعنى أن الحساب مجرد فخ تم نصبه لمن يمتلكون الاستعداد للتحول إلى وقود في معركة يجهلون مراميها.
وفي الغالب تكون هذه الحسابات مصممة لتحطيم قوة منافسة والتصدي لمخططاتها. وهو الأمر الذي يعكس في العمق وجود صراع بين قوى تشكل هذه الحسابات امتدادات عضوية لمخططاتها. ولذلك لا تُظهر تلك المنظومة من الحسابات قوة وثقافة الذات التي تديرها إلا باتجاه مقارعة الخصوم. وبصورة أكثر وضوحا بين التيار الذي يزعم أنه يمثل الحداثة والليبرالية مقابل التيار الذي يحاول إقناع الناس بأنه حامل قيم المحافظة والأصالة والتقاليد. وهي خبرات لا تتأتى لأي أحد. ولا يمكن اكتسابها بين ليلة وضحاها. إذ لا بد أن يكون صاحب الحساب ممتلئا بالمعرفة والخبرة وألاعيب التصدي للأفكار المضادة. أي إعادة إنتاج رأسماله الرمزي ضمن خطة تسويقية تنهض أركانها على حلف يرتهن فيه المغرد إلى قوة تستثمر خبراته التقنية والمعرفية في معركة لا تظهر فيها فروسيته إلا من وراء اسم مستعار أو واقعي أحيانا بمقتضى ضرورات المجابهة.