تضخم الأوهام.. فيدرالية الضفة والقطاع
برز من جديد الاهتمام بالقضية الفلسطينية، على الصعيد العالمي. فهناك مؤتمر عقد في العاصمة الفرنسية، باريس، ضم سبعين دولة، في محاولة للتوصل إلى حل سياسي للصراع الفلسطيني «الإسرائيلي»، على قاعدة التسليم بوجود دولتين، فوق فلسطين التاريخية، والاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة على أراضي الضفة الغربية والقطاع.
وهناك اجتماعات تعقد في موسكو، برعاية روسية، بين فصائل فلسطينية، بهدف إنهاء الانقسام بين فتح وحماس، والتوصل إلى أرضية سياسية مشتركة، باعتبار ذلك يمثل خطوة في الطريق الصحيح، لتحشيد الموقف الدولي، لتأييد قيام الدولة الفلسطينية المستقلة.
وفي الفاتيكان افتتحت لأول مرة، سفارة لفلسطين، وبحضور الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، في خطوة يرى الكثيرون أنها تضيف ثقلاً اعتبارياً للقضية الفلسطينية، بسبب الدور الذي يضطلع به بابا الفاتيكان لدى المؤمنين، من أتباع الديانة المسيحية.
يأتي ذلك، وسط ضغوط من فصائل سياسية، لإعادة تركيب هيكلية منظمة التحرير الفلسطينية، باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. ويقترح في هذا السياق، ضم حركتي المقاومة الإسلامية «حماس»، والجهاد الإسلامي، للمنظمة ودعوتهما للمشاركة في الدورة القادمة المرتقبة، للمجلس الوطني الفلسطيني.
وكان الرئيس أبو مازن، دعا في خطاب له أثناء الدورة الأخيرة للمؤتمر العام لحركة فتح للتسريع بتحقيق المصالحة الوطنية الفلسطينية. وتحدث في خطابه، عن تفاهمات بينه وبين رئيس حركة حماس خالد مشعل، على استعادة وحدة الضفة والقطاع، وحل الخلاف بين فتح وحماس، على أساس العودة لانتخابات جديدة للمجلس التشريعي الفلسطيني، يكون القول فيها لصناديق الاقتراع.
إن جملة من الأسباب الوجيهة تدفع بالتسريع لتحقيق المصالحة الفلسطينية. فهناك أولاً تسعير «إسرائيلي»، في بناء المستوطنات، بشكل جنوني غير مسبوق، بحيث تشير جل التقديرات، إلى أن ما تآكل من الأراضي الفلسطينية التي جرى احتلالها في حرب يونيو/حزيران 1967م، قد تجاوز ال55%، من خلال بناء المستوطنات والمعابر، والجدران العازلة، وأن معظم مساحات المدينة المقدسة باتت في قائمة المصروفات. ذلك يعني أنه لم يعد للفلسطينيين ما يتفاوضون عليه سوى مساحة لا تتجاوز ال45 في المئة، من الأراضي المحتلة. هذا إذا توصل المتفاوضون إلى تسوية في هذه اللحظة. أما مع التأجيل والتسويف، وسياسة فرض الأمر الواقع التي تمارسها حكومة اليمين «الإسرائيلي»، فإن المساحات المتبقية، معرضة لتآكل أوسع.
إن هذا الأمر وحده هو سبب كاف لتضافر الجهود، لصياغة استراتيجية كفاحية موحدة، لوقف بناء المستوطنات، وإنهاء الاحتلال الصهيوني للضفة والقطاع، وإقامة الدولة المستقلة.
الأمر الآخر، الذي يجعل من تحقيق المصالحة مهمة قصوى، في هذه الفترة، هو الصمت العربي الرسمي، إزاء القضية الفلسطينية التي لم تعد لها الأولوية في قائمة أجندات الدول العربية. فبعض هذه البلدان صودرت هويتها وكياناتها، ومنشغلة الآن بما يقترب من الحروب الأهلية. وبعضها الآخر، مشغول بهمومه الاقتصادية، وباتساع دائرة الفروق بين الغنى والفقر. وبعض ثالث، يخوض حرباً شرسة ضد الإرهاب. والبقية تائهة في لجة البحر، يخشى من الطوفان الذي يحاصره، من كل مكان، ويبذل ما في طاقته، للنأي عما يجري من حوله.
وعلى الصعيد الدولي، هناك تجاهل تام من قبل الأسرة الدولية، للانتهاكات الصهيونية، للقانون الدولي، والتسريع في تهويد القدس. وهناك رئيس سيتسلم موقعه في البيت الأبيض في العشرين من هذا الشهر، ويبشر بنقل سفارة بلاده إلى المدينة المقدسة، باعتبارها العاصمة الأبدية للكيان الغاصب.
تراجع القضية المركزية للعرب جميعاً، للخلف بشكل درامي ومريع، كاف لدفع الفلسطينيين المتصارعين على وهم السلطة، بأن يلملموا شتاتهم، ويحشدوا جهودهم، كي يعيدوا الاعتبار لقضيتهم، من أجل ألا تضيع حقوقهم بالتقادم، ويلفها النسيان.
المفاجأة أن كل هذه الأسباب، لم تشفع لدى بعض المتنفذين في قطاع غزة للتسليم بأهمية تحقيق مصالحة تاريخية. فمن وجهة نظر هؤلاء فإن حل الصراع بين الشطرين ليس مسألة بسيطة يمكن حلها بالنوايا الحسنة. إنه من التعقيد، بحيث تجعل الأسباب التي ذكرناها، غير كافية، لكي يتسامى الفرقاء الفلسطينيون فوق صراعاتهم، ويتوصلون إلى حل يضمن الحفاظ على البقية الباقية من الحقوق الفلسطينية المهدورة.
بعضهم رأى الحل في استعارة فيدرالية بول برايمر التي طبقت في العراق، والتي دفع ثمنها العراقيون، منذ سقوط بغداد دماً وقهراً. وكانت السبب الرئيسي في تغول الإرهاب، وتضخم دور الميليشيات الطائفية، ومصادرة الدولة، كياناً وهوية.
الصراع من وجهة نظر هؤلاء هو أعنف من الصراع مع المحتل، الذي يغتصب، الأرض ويقلع الزرع، وينتهك الأعراض. وليس له من حل سوى إقامة فيدراليتين، واحدة في الضفة الغربية، وأخرى في قطاع غزة، تنظم العلاقة بين الشطرين، وتضمن تفرد حماس على السلطة بالقطاع، وفتح على الضفة الغربية.
اقتراح كهذا ساقط من الأساس، وهو هروب إلى الخلف. فالمسألة التي ينبغي أن تكون حاضرة الآن ليست السلطة، ولا من هي القوى السياسية التي تحكم في الشطرين، بل إيقاف الاستيطان وطرد الاحتلال، والتأكيد على عروبة القدس، وضمان حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم وإعادة الاعتبار للحضور الفلسطيني، ولفلسطين كقضية مركزية للعرب، وتنشيط ذاكرة من يتربعون فوق منابر الشرعية الدولية، بأن هناك قضية منسية، هي قضية فلسطين.
وحدهم الشباب والأسرى الفلسطينيون الذين يواجهون الاحتلال، في السجون «الإسرائيلية»، بأمعائهم الخاوية، وأولئك الذين ينتفضون في وجه الاحتلال في عموم الأراضي الفلسطينية، يدركون هذه المعادلة.