ضرورة التفكر في زمن الفوضى
عندما تشعر بالفوضى من حولك، سواء كانت فكرية أو اجتماعية أو غيرها، ستبدأ في وضع الاسئلة التي لا تتوقف، وستحاول البحث عن اجابات. ومع تلك الحالة ستكون معظم الاجابات إما مبهمة أو ضائعة أو غير منطقية. لا تستطيع أن تفارق الاشياء بطريقة مفرطة للبحث عن اجابات حتى لا يضيع كل شئ، وفي نفس الوقت لا تستطيع في ظل هذه التداخلات الشديدة بين كل هذه الصور أن تفكك العقد لتصل إلى حالة من القناعة والرضى والتسليم. فما الحل اذاً؟ هل مصير الاشياء هو الفوضى؟ أم الترتيب؟ هل تكاملها في أن تصل إلى حالة من العبثية وتستهلك كل قواها في حركات عشوائية كما هي عليه ذرات الماء عند الغليان؟ أم أنه يجب أن يستقر وجودها ووجود ما حولها في حالة أشبه بالاستسلام والانقياد لقوة مهيمنة على كل شئ؟
لا يمكن القول بالرأي الأول ولا البحث عنه كثيراً، فمحاولة اثبات فاعلية الفوضى قد يكون عبثياً ولا طائل منه، ونحتاج فيه لأن نتنازل عن بعض قواعد المنطق ونحاول الالتفاف على الحجج العقلية لكي نقتنع به. ومن جهة اخرى، بالتدبر في أدق التفاصيل التي عليها الموجودات بدءاً من الذرة إلى المجرة سنلاحظ الترتيب والتقدير الدقيقين اللذين جعلهما الله في حركتها. وبسبب تلك الدقة والتقدير والترتيب فإن الكون يسير بأروع صورة قد يتخيلها الانسان، وكما قال الفلاسفة عن خلق الله سبحانه وتعالى لعالم الوجود: «ليس في الإمكان أبدع ممّا كان». وفي كل هذا دروس تُعلمنا كيف أن الفاعلية لا تظهر إلا بالاستقامة والصبر والانقياذ لما هو مُقرر لهذا الانسان في تحمله للمسؤولية وفي حمله للرسالة وفي أن يكون خليفةً لله سبحانه وتعالى، يقول جل وعلا: ﴿وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا﴾ [1] .
مفهوم الوجود هو مفهوم بديهي لا يحتاج لإثباته إلى مجهودات، ولكن التعرف على عالم الوجود والسفر قد يتطلب من الجهد والمعرفة والعمل الشي الكثير. يبدأ الانسان منذ صغره بالتعرف تدريجاً على هذا الوجود بما يملكه من حواس وقدرات عقلية محدودة، ولكنه بعد النضج والبلوغ يتوقف عند مرحلة معينة بحسب ما اكتسبه من بيئته ومحيطه ومقدار ما تعلمه. وما لم يلتفت لحاجته إلى العلم والمعرفة والعمل فإنه لن يتجاوز تلك النقطة التي توقف عندها مهما امتد عمره. فالذي لم يجرب هذا السفر المعنوي أو الوجودي، لم يتعرف على الوجود بعد إلا في اطار ذاته وفيما يراه ويسمعه وترغب فيه نفسه. وما يعيشه فعلياً هو أضيق عالم يمكن أن ينفتح عليه حيث يبدأ تدريجيا بخسارة الكثير مما قد يكتسبه من عالم الوجود وما من شأنه أن يضيف إلى انسانيته وبعده المعنوي.
ومن أجل أن يتكامل الانسان كان هذا السفرُ متاحاً لكلِ انسان، فهو لا يقتصر على الانبياء والأولياء والصالحين، بل هو مما أمر به الشرع في عدة مواطن وعبر عنه تارة بالسير وتارة بالتفكر، كما في قوله تعالى: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَة﴾ [2] ، وفي قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار﴾ [3] ، وهذا السفر يقترن عادة بذكر الله عز وجل لهذا هو سفر بالله وفي سبيل الله وبه يصطبغ الانسان بالصبغة الإلهية، قال تعالى: ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ ۖ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ۖ وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُون﴾ [4] . ومن يعقد العزم على الالتحاق بهذا السفر والبحث عن ما فيه من ثمرات، سيأخذ الله بيده ويوفقه الله وسيدرك المعنى الوارد في الروايات «إِنَّ تَفَكُّرَ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سَنَةٍ ”[5] “ أفْضَلُ الْعِبَادَةِ إدمانُ التَّفَكّرِ فِي الله وَفِي قُدْرَتِهِ» [6] . لو استغل الانسان اوقات العبادة وما بعدها من لحظات وأوقات ما قبل النوم وقطع حبل تفكيره بما حوله بما فيها الحاجاة الدينيوية، لتمكن من التعرف على عوالم جديدة يمكنه أن يكتشف فيها لذائذ لا تشبه لذة الطعام والشراب والمال والجاه. وكثيراً ما تسبب هذه اللذائذ القصيرة الأجل الكثير من الصراعات في داخله وفيما حوله، بعكس لذة التفكر التي توصله إلى الاستقرار والطمأنينة.
كثيراً ما يتسلل الوهم ويحاول السيطرة على حركات وسكنات الانسان بفعل الدعايات المغرضة للنفس والشيطان، والتي تزين كل قبيح وتضع الشراك مابعد الشراك حتى يعلق الانسان في الوحل فلا يستطيع التخلص منه بسهولة. يمكن للتفكر كوسيلة أن تساعد في طرد هذه الأوهام وتقوي جهاز المناعة في ادراك الانسان، وتساعده في معرفة نفسه وتزكيتها والتنبه لأخطاءه. والأمر في الحقيقة أبعد من ذلك، فإذا اقترن التفكر بالهداية سيحدث تحولاً تدريجياً في حياة الانسان ينتهي به لتقوية ما كان يعتقده ولتصحيح الكثير من المعاني الخاطئة التي تلقاها من محيطه وبيئته أو التي اكتسبها من خلال قراءته ومطالعاته.
عندما يتحول التفكر والتأمل والسير إلى ملكة في حياة الانسان، يكون قد خطى خطوة مهمة في طريق تكامله، لما فيه من طاقة استيعابية لا تتوفر في غيره من الموجودات. وقد تكون ملكة“التفكر”هي الأمر الجذري الذي يحتاجه الانسان ليحدث تغييراً ايجابياً في حياته. وهذا ما يبحث عنه كل شخص عاقل، ويغفل عنه من لم يحاول الانفتاح على عالم غير عالم ذاته ومشتهيات نفسه المادية. الامر برمته يتعلق بإرادة الانسان وباختياره وعزيمته، فهو لا يخلو من جهاد ولكنه جهادٌ ثمرته طيبة إن شاء الله. قال تعالى: ﴿والَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ﴾. [7]