حواراتنا مع بعضنا دون فلترة أو تجميل
لم يشأ قلمي في هذا المقال إلا أن يصف حواراتنا دون إضفاء لمسة جمالية عليها تصيرها مشهداً رائعاً ساحراً أو إضفاء بهارات منكهة تحولها طعاماً سائغاً بل وصفها كما هي هي دون زيادة أو تجميل أو رتوش.
القارئ المتأمل لحواراتنا في فضاءاتنا الفكرية والثقافية والدينية والاجتماعية والأسرية يجد في معظمها حضور ماكافيلي بفكره البرجماتي النفعي الانتهازي وماركس بدليكاتيكيته المادية التي ضد المنطق ونيتشه بعدميته وفرنسيس بيكون بلؤمه الأخلاقي لا بإبداعه الاستقرائي وديكارت بشكه المنهجي والعرق الآري بعنصريته والفاشية بديكتاتوريتها.
وهذا لا يحتاج المرء فيه إلى بذلٍ ذهني هائل لاستكشاف صحته، بل يحتاج إلى قليل من التأمل والفحص والتدقيق في سمات ومعالم حواراتنا على نحو الواقع لا على نحو الفَرض والتنظير ليلمس صحة ذلك.
وللتدليل على ذلك نحاول في هذا المقال استعراض المعالم المرتسمة لحواراتنا، والتي تتمثل في التالي:
- نستخدم المنطق ضد المنطق في حواراتنا وكأننا نحاول تطبيق دليكاتيكية ماركس بدون شعور.
- لا نقيم وزناً ولا قيمةً للمعايير الأخلاقية وندعي بأننا حاملون مشعل الأخلاق، فأغلب حواراتنا هي انتصار للكذب على الصدق وإن زعمنا بأننا ننشد الصدق من خلالها.
- ندعي بأننا لم ننحو نحو الحوار إلا من منطلق نزوعنا تجاه الديمقراطية، وما أن يبدأ الحوار إلا الديكتاتورية النزعة المتأصلة في نفوسنا تبدأ بالظهور والبروز.
- ننسى في حواراتنا ما يستلزم الضرورة نسيانه ونستحضره متى ما استدعت الحاجة إليه مرة أخرى بغية الغلبة.
- في حواراتنا ألسنتنا تلهج بمقولة: «اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية» وفي الوقت نفسه نفوسنا تحمل حقداً دفيناً وضغينة وغلاً لا يماثله غل نحو من يخالفنا في الرأي.
- حضور التفكير المزدوج في حواراتنا، فتجدنا نعرف الحقيقة كاملةً بيد أننا نستحضر عكسها أو مبتورة وناقصة ومشوهة بغرض الغلبة على الآخر، فكأن المسألة مسألة غالب ومغلوب والحوار بمثابة مطية الظفر ومهر النصر.
- الهدف المرسوم للحوار هو تقريب وجهات نظر المتحاورين حول الأمور الخلافية والتركيز على المشتركات. وما أن يبدأ الحوار عملنا على حرفه عن هدفه المرسوم ووجهناه نحو غاية تحقيق الغلبة والنصر والظفر على الطرف الآخر والعمل على تهشيمه وتحقيره والاستخفاف به والحط من شأنه. فيتحول الحوار من نشاط فكري حضاري راقٍ إلى حلبة مصارعة أو ملاكمة، كل طرف يسعى إلى توجيه الضربة القاضية للآخر أو كسر عظمه.
- حواراتنا تتضمن في ثناياها المنهج المكافيلي «الغاية تبرر الوسيلة» ونسير عليه بشعور أو بدون شعور، فنلجأ إلى الكذب وتزوير الحقائق والافتراء بغية الانتصار إلى الفكرة التي نريد تسويقها.
- عقولنا مبرمجة على أنَّ الآخر هو عدو وليس متحاوراً ولذا ينبغي مواجهته بشتى الأساليب والوسائل وكافة الأسلحة المشروعة وغير المشروعة. وعلى هذا الحوار الذي من شأنه الوصول إلى الحقيقة أو إكمال المعرفة الناقصة لا يتم إلا من خلال إعادة برمجة عقولنا في نظرتنا اتجاه المتحاور الآخر.
- انحدارنا بالحوار في غايته إلى مستوى الغالب والمغلوب يؤدي إلى عدمية الحوار، ويصير مظهراً عبثياً ينهار فيه المعنى والغاية، فيكون بواقعه العدمي كأحد تجليات عدمية نيتشه، إذ لا معنى ولا غاية له.
فما دامت هذه سمات ومعالم حواراتنا فماذا نتوقع منها؟
هل نتوقع منها أن تشكل أرضية صالحة للنمو الثقافي والفكري أو نتوقع منها أن تكون منصة انطلاق نحو مضارعة الأمم الأخرى المتقدمة التي اتخذت من الحوار نقطة انطلاق بنائها؟
بهذه السمات لا نتوقع من حواراتنا الفكرية والثقافية إلا الخواء والفراغ، ولن نتقدم خطوة واحدة نحو الأمام.
ومن أجل أن نتقدم علينا تصيير الحوار حواراً لا مصارعةً وعراكاً في مجالسنا ومنتدياتنا ومدارسنا ومنازلنا.
وأخيراً لئلا أُتهم بأني ذو نزعة تعميمية أقول بأن هذه السمات السالفة تنطبق على الكثير من حواراتنا وليس الكل، وقد يكون للقارئ الكريم رأي آخر.