آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 4:07 م

ما الذي حرمت منه...؟

الدكتور محمد المسعود

سؤال يحمله اليوم الأخير من كل عام؟! وتحمله لحظات السكون، وارتعاش الضعف، وظهور المنحنى الأخير في حياة كل واحد منا..!

ما الذي حرمت منه! السؤال في عمقه البسيط نحتاج إليه قبل العجز عن التدارك، قبل الضعف الأخير، الذي لا مهرب منه يُرتجى، ولا خلاص يؤمل..!!

ينبغي أن نحيط، وينبغي أن نعي.. ما الذي يشعرنا - عند فقده - بالشعور بالحرمان منه..! وما الذي يتساوى وجوده وعدمه في حياتنا..!. هذا وعي الذات بالذات، ورؤية القلب لشعوره، وشغفه ووجعه، وأكثر شيء يحبه..!.

لا يتساوى الحرمان في القلوب.. فالنفوس منازل، والعقول درجات، والهموم تتفاوت..!!.

العدد الأكبر من المرضى - في دول كثيرة - أجاب أنه لا يشعر بحرمان لا عوض له، أشد من حرمانه من حنان أمه، وصدر أمه، وصوتها ودعواتها التي تشبه أنفاس الملائكة.. الذين فقدوا صغارا أمهاتهم.

ظل اليتم عصيا على النسيان، وظل في القلب شغف لما فقده صغيرا من اللطف وأشكال حنان الأمومة، وألوانها التي لا تنتهي.. يذهب العمر بعيدا.. وفي لحظة الضعف الأخيرة، وعند يباس غصن العمر، وإصفرار ورقها.. يشعر الإنسان بهذا الحرمان الذي لا عوض له.. ولا مثيل..! لأن حب الأم هو أصل الذات.. وهو تمامها.. وهو هبة الله التي تأتي في العمر مرة واحدة هي بطول عمر الأم...!. يبكي الكبار أمهاتهم أكثر من بكاء الصفار.. لأن الكبير يشعر بالوحشة من الناس أكثر، ويشعر بقلة الصدق في الحب أكثر، ويشعر بالحاجة إليها أكثر.. ولهذا كان جواب أكثر الناس عن الحرمان الحقيقي.. هو فقد أمهاتهم.. ولو كانوا كبارا.

الذي أستطاع أن يسترد قلبه من - هموم غيره - وحياة من حوله - وضجيج طلب الرضا من الناس.. أجابوا أنهم طيلة الوقت، وعلى الدوام محرومون من أنفسهم واطمئنانهم..! ولا شيء في الحياة أقسى من أن تكون أنت غير حقيقتك.. وأن تصرف أيام عمرك في طلب القبول المشروط في أن لا تكون أنت..!

يقال: في أيام الحقائق الأخيرة.. يشعر أكثر الناس بحرمان موحش من أنفسهم، لأنهم طيلة الوقت كانوا مشغولين بغيرها.. غرباء عنها..! وقد أخبر الله عن تلك الفئة من الناس الذين «نسوا الله فأنساهم أنفسهم» إن الماء الأكثر نقاء هو الذي يتباعد عن السطح، والأكثر سكونا هو الثقيل بذاته في القاع بعيدا عن حركة الرياح وأصابع عبثها.. وضجيج أمواجها.. الأكثر إنشغالا بالناس.. هو اقلهم حظا ونصيبا من نفسه.. وهو الحرمان الذي ظهر في أيام الحقائق الأخيرة.

وأما الذين في قلوبهم - قدرا - من الإيمان بالدار الآخرة، وحياتها الخالدة، كان الحرمان الأعظم - هو الله -!!. في حلول - الضعف الأخير - الوقوف الطويل على رغائب غائرة في النفس، قديمة المشتهى، سريعة الزوال، وهنا وعند الباب الأول، ولحظة الصدق الأولى، ونزول النفس في حقيقة ضعفها الأخير، يستوعب القلب جمال حضور الله فيه في فضاء متعال، يتفاضل فيه الظن بالظن، واليقين باليقين، والشهود، والغياب، ترتفع النفس إلى تلك الحكاية المروية «ياليتني قدمت لحياتي». رهف الحس فأدرك، أقترب القلب، فستثار وأستنار.. خرج من الشتات والتيه والظلمة.. ليجد أن أكثر شيء حرم منه طيلة عمره.. هو الله..!!. الذي عن قريب سيكون بين يديه..!! ولعله أقسى صور الحرمان وأكثرها فقرا. فما الذي حرمت أنت منه؟! أسعى للجواب الآن قبل حلول الضعف الأخير.. والعجز الغالب.