آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 4:07 م

حفر الماكرين

قال تعالى: ﴿... ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله «فاطر الآية 43».

أسلوب الخداع وإعداد حفر ليوقع فيها ضحاياه من أجل مصلحته ومنافعه الضيقة ينطوي على الخسة، ولعله يجد من مكره ما يشفي به غليل قلبه الأسود الممتلئ حقدا وحسدا للآخرين، ولأن الشخص الماكر ضعيف نفسيا لا يقوى على المواجهة أو البوح بمكنون مشاعره وأفكاره، يتحول إلى حالة الانفصام والتلون الذي يظهره بوجه باسم ولسان ينقط الكلام المعسول، ويخفي في باطنه كل الحنق واللؤم والغيظ من الآخرين، فيلجأ الماكر إلى عالم الظل والعمل الخبيث في الخفاء، معتمدا على طيبة الناس وحسن ظنهم بمن يتعاملون معه، فلا يرتدع عن طعن الظهور غدرا بخنجر أحقاده وانتهازيته، ونصب فخاخ الغدر والخداع.

هذا الفعل السيء والتعامل المشين والسلوك القبيح الذي ينطوي على كل علائم الخسة والنذالة والجبن، لا يقره عقل رشيد ولا القيم السماوية والإنسانية، وذلك لما يجره من ويلات تفكك عرى التعاون والثقة بين أفراد المجتمع، وتسقط مظلة الأمان وتخيم الظنون السيئة والأحقاد التي يتبادلها الناس حينئذ، والفكر الواعي يحذر من كل تصرف لا تقبله لنفسك، وتتغيظ من وقوعك في مطب خداع رسمه لك أحد، فلماذا نرضى للغير من التصرفات التي نستنكف منها؟

البشارة الإلهية التي تسوء وجوه الماكرين هو أن السنة الإلهية الجارية في عباده، المكر السيء وخداع الناس واستغفالهم وإيقاعهم في السوء والضرر، لن يكون بلا عقاب أو نتيجة على صاحبه، فإن الله تعالى يتصدى بعلمه وعدله لهؤلاء المخادعين ويوقعهم في شر أعمالهم، فإن من حفر حفرة لأخيه وقع فيها، وسيكشف سبحانه خبايا اللؤماء وتكون عاقبة المكر وبالا على من عمل بإيصال الضرر والفساد للناس، فكم من مخادع ظن أن طوق النجاة لحياته وعلاقاته المشي بالمكر السيء، وكلما حفر حفرة وأوقع فيها إنسانا ازدادت رغبته بإيذاء الآخرين، وغفل أن الله تعالى يمهله ويفسح له المجال ليقع في دائرة السوء، وما يلبث أن يلتف حبل المكر الذي أعده وفتله حول رقبته ليخنقه، وكأن الحقيقة الماثلة أنه كان يخادع نفسه ويعمل عل إلقاء نفسه في شر أعماله، وأنه يحفر قبره بيديه، وقريبا يرى بأم عينيه نتاج شره.

وأولى خطوات الشيطان التي يقع فيها الماكر، هو الوقوع في وحل السيئات واجتراح القبائح بشتى أنواعها، فالمكر ينطوي على شر الفعال ومنكرها، إذ يعمل على تكوين شراكه وفخاخه من خلال السير بالكذب والغيبة والنميمة وزرع الفتن وبث الشائعات وهتك الحرمات وفضح الأسرار، وكفى بهذه المقبوحات من السلوكيات مهلكا وظلما لنفسه.

ولما تنطوي عليه سيرة الخداع من نتائج كارثية على الفرد نفسه وقبل أن يصل شيء من لهب ناره لآخرين، جاءت تلك المفردة الأخلاقية والقرآنية المحذرة من كل وسائل التحايل والغش والتزوير والكذب، فلا يجوز اتخاذ المكر ذريعة ووسيلة للوصول إلى الأهداف مهما كانت الظروف، فالقيمة التكاملية للإنسان وشرف كرامته يمنعه من التعامل بكل ما يضر الآخرين، فضلا عن تحوله إلى ذئب مفترس للشياه متى ما عنت له الظروف وتهيأت، فإن غاب الراعي وخيم الليل وجدها فرصة سانحة للاقتناص، هكذا حال المخادع للناس.

وإن الله تعالى جعل عجلة الزمن كاشفا في يوم من الأيام لذلك الماكر وما كان يعده من حفر يوقع الناس فيها، وأما الفضيحة الكبرى فهي يوم يقف بين الملأ في موقف الخزي لأهل الباطل، يوم تنصب موازين الأعمال بين يدي العادل.

وللأسف بعد أن تمزقت أشرعت القيم والنبل والمروءة، تحول مفهوم الخداع المقيت إلى ذكاء واحتراف في بلوغ الغايات، بل والإنكار يكون للضحايا من جهة غفلتهم وغبائهم، والتصفيق يحظى به من أوقع الناس في فساده!

ولا حل لوأد صفة المكر وخفائها من سلوك المؤمن، إلا بتربيته على مبدأ الصدق والوضوح، وامتثال النماذج ذات المصداقية كوالديه أمامه، بالتزامهم لسمت الشفافية بنحو دائم.