آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 4:07 م

آفة البخل

قال تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى «الليل الآية 8».

الآية الكريمة تشير إلى آفة تضرب الإنسان فتستحوذ على كيانه وفكره وتصبغه بلون الإمساك الشديد في الإنفاق، فحب المال وما يخلفه من مكانة اجتماعية ووجاهة، تتصاغر عندها نفوس الآخرين فتنحني أمامه هامة الناس، هو المحرك الأساسي لمسيرة تمتد به طوال العمر لا تدعه يرفع عينه للحظة بحثا بين الآكام والأزقة عن كل ما يرفع رصيده المادي، وفي المقابل فإن الإنفاق على مستلزمات الحياة الضرورية والكريمة واللائقة به وبعياله، يعدها نوعا من البله والخسارة التي يسعى بكل ما أوتي من قوة على تقليل مصاريفها، فلا ألم يضجره كخروج الدرهم من جيبه.

إذا ينطلق البخيل من رؤية تقييمية لوجوده وحجمه الوجاهتي، تتعلق بالقدرة على بلوغ المستويات العالية من الثروة، وبالطبع فإن تفكيره يتبرمج بناء على هذه التصورات، فعلى مستوى العلاقات الأسرية تراه أشقى الناس به أهله، إذ يبادلهم في قدر العطاء بنحو عكسي لما يمتلكه من أموال، فيحيون معه حياة لا تطاق يتمنون معها موته أو استبداله برب أسرة فقير يحبهم وتسمح نفسه ولو بالقليل من المال، فالمهم هو نبض الحنان الدفاق الذي يمنحه الاب لأولاده وإحساسهم ببذله كل جهد ووقت يسعه لفعل ما يسعدهم ويجنبهم العوز، وأما ذاك الغني الشحيح فقد سرى سم البخل في جسده ووجدانه، فحتى على مستوى المشاعر والكلمات الطيبة الرقيقة، تراه شحيحا لا يبوح بشيء منها لأن عقله وقلبه مشغول بجمع المال وتكديسه وتخزينه.

وعلى مستوى العلاقات الاجتماعية فلا صاحب للبخيل؛ لأن عمى بصيرته وتولعها بالمال جعله ينظر للآخرين وكأنهم ذئاب تتحين الفرص ولحظات الضعف للانقضاض عليه ونهش ثروته، فيمتلئ قلبه بسوء الظن والكراهية لمن هم حوله، كما يسعر مشاعر البغضاء والكراهية والنفرة منه هو صدود البخيل عن جراحهم النازفة وحاجاته وآلامهم وكأنه لا يرى أو يسمع شيئا، ويفتقد البخيل للنخوة والحمية والغيرة على أعراض الناس، إذ يرى في الشهامة والمروءة ضربا من التهور والانشغال بما لا ينفع وهدر الأوقات.

بل إنه يضن ويمتنع حتى عن إبداء التوجيه والنصيحة لما يراه من سلوكيات خاطئة على أي صعيد في حياة الآخرين، فلا يبتغي التداخل مع الغير لئلا يفتح بابا للتواصل لا يستطيع سده بعد ذلك، ولئلا يلفت أنظار المحتاجين إليه فيطرقون بابه ويرتادون مجلسه، مما يسبب له حمى وصداعا مزمنا!

والبخل باب لتمزيق عرى النسيج الاجتماعي وتفوير وتأجيج مشاعر الغضب والأحقاد في المجتمع، إذ يرى ذاك الفقير هذه الثروة الهائلة المهملة والمخزنة عند الغني، بينما شيء بسيط لا يذكر منها قادر على قضاء حاجته ورفع عوزه وهمه.

المال في حقيقته نعمة إلهية يسهل حياة الإنسان، فيعده وسيلة لتوفير مستلزمات الحياة الكريمة له ولأسرته، وينفق مما زاد على مؤونته على المحتاجين فيكون رصيدا وذخرا أخرويا له، فلن يخرج المرء بشيء من أمواله - مهما تعاظمت وكثرت - إلا قطعة كفن تستر موته في لحود القبور!

ولكنها آفة تأليه المال والوقوع في أسره يعمي القلب عن رؤية الحقائق، فترى المال هو السبب الأول للصراعات والخلافات والعداوات بين الناس، فحدثت القطيعة بين الأرحام والأصدقاء بسبب بخل البعض وامتعاضه ورفضه لتقديم أي مساندة أو مؤازرة تخفف من عوزهم.

ولا علاج للبخل سوى لحظات تأمل وروية يستعرض فيها الخيل ما يؤمله من تكديس الأموال، ففي النهاية سيخرج من الدنيا ويرحل منها مخلفا أمواله التي سيحاسب عليها، فلا هو بالذي متع نفسه في الدنيا قليلا، ولا بالذي بنى مستقبله الأخروي أو استعد للقاء ربه والحساب على ما قدم!