ماراثون «!!»
تعلمنا من مدرس التربية البدنية أن «العقلَ السليم في الجسم السليم». غير أن للأديب الساخر جورج برناردشو رأياً آخر هو أن «الجسمَ السليم في العقل السليم» وذلك ما تؤكده بعض الدراسات العلمية أيضا. فالعقل حارس الجسم والمحافظ على سلامته، وضبط تصرفاته أيضا، حتى لا يصح على سليم الجسم المثل الشعبي القائل «خبل ومتعافي». وهو مثل لا يتعلق بالأفراد فحسب، بل يصح على الأنظمة أيضا، وفي تاريخ العالم شواهد كثيرة على ذلك. لكن الذين قرأوا تلك العبارة قراءة تقليدية لم يتجاوزوا معناها المباشر إلى بعدها الاجتماعي، حيث إن سلامة البنية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية مرتبطة بسلامة البنية الفكرية. ويمكن تناول هذه الفكرة على ضوء معلومة تبدو للوهلة الأولى بعيدة عن هذا السياق.
المعلومة للسيد مايك لوسمور الذي يرى أنه يمكننا الحصول على التأثير الصحي الإيجابي الناجم عن الاشتراك في 10 ماراثونات جري خلال العام بالوقوف على القدمين 3 ساعات يوميا بشكل منتظم. ولا أظنك ستعارض السيد لوسمور إذا علمت أنه استشاري في الطب الرياضي.
ويستدعي ماراثون الوقوف إلى الذاكرة ماراثون آخر على المستوى الثقافي والاجتماعي، حيث الوقوف في هذا الماراثون الأممي يعني التخلف، ومن مظاهره إعادة تدوير أو اجترار قضايا تجاوزها العالم منذ سنين، والانشغال بها عن قضايا الحاضر الملحّة. وهذا مناقض لعمل «العقل السليم». وإذا استثنيت الباحثين عن المشاجب، فإن غالبية المهتمين بتشخيص ما سمي «سسيولوجيا الإخفاق» تميل إلى الاعتقاد بأن بعض الأمراض التي ألمت بجسم الأمة ناتجة عن اختلال في البنية الفكرية.
في ماراثون الوقوف الثقافي والاجتماعي تبدو بعض المجتمعات للرائي وكأنها تسير، وهي لا تزال تراوح مكانها واقفة على عتبات الماضي بمظهر استهلاكي عصري. وإذا كان الوقوف يمثل الثبات والمشي يمثل التحول، فبين المتحول والثابت سجالٌ قديم. ويمكننا أن نشاهد رموزا وصورا لذلك السجال على أرض الواقع. فلا يمر تحوّلٌ في حياتنا إلا وينبري أنصار السكون لإعاقة حركته وعرقلة مسيرته.
«الجسم السليم في العقل السليم». وكما أنه لا يمكن المشاركة في ماراثون دون لياقة بدنية، كذلك تتطلب المشاركة في ماراثون حضاري لياقة وخفة. والخفة تعني إزاحة الثقل عن التفكير، والتخلص من حُمولات لا نفع فيها، وتحريره مما علق به من رواسب ومفاهيم بالية.
كل شرط من تلك الشروط يؤدي إلى الآخر، فالخفة تحقق السرعة. ومن يتأمل ما يجري على أرض الواقع يجد أننا نعاني بطئا في ذلك الماراثون الحضاري العالمي. نحن في عالم متسارع لا ينتظر أحدا. والحديث عن السرعة لا يعني بأية حال من الأحوال الهرولة والارتجال. لكن من يبرر ذلك «البطء» سيراه حكمةً ورويَّة وبعدَ نظر، وسيزعم أن المجتمع ليس مهيأ بعد لأية نقلة سريعة. غير أنه لا يوجد لهذه الحجة المتعلقة بالجاهزية سقف زمني محدد. إنها أشبه بانتظار ذلك الذي يأتي ولا يأتي. لذلك يقول أحد المفكرين: هنالك بطء ينضج الأشياء وبطء يجعلها تتعفن.
وأسوأ من الوقوف العودة إلى الوراء. يلاحظ أحد الساسة قائلا: إنه «يتعذر التطلع إلى الأمام وإلى الخلف في وقت واحد». كما أن الانشغال بالأمجاد السابقة لا يخدم الحاضر. لذلك يرى آخر أن المديح الذي نكيله للأمجاد السابقة شبيه بالريش على طائر ميت. لا تحمد العودة إلى الماضي إلا حين تكون عودة عابرة أشبه بالسياحة التأملية، أو بعودة المؤرخ التي لا تهدف إلى الإقامة في الماضي. وفي هذه الحال لن يستطيع الماضي اختطاف الحاضر أو سرقته.