الخطابة وموقعية الخطيب البصارة
قال ربنا العظيم في محكم كتابه الكريم: ﴿الرحمن، علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان﴾ صدق الله العلي العظيم
رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي.
حديثنا في هذه الكلمة عن الخطابة ودورها، وعن موقعية فقيدنا الكبير الخطيب الشيخ عبد الرسول البصارى من هذه الصناعة، وتقع في عدة محاور:
اهتم الأدباء وكذلك المناطقة بالحديث عن الخطابة وأولوها عناية بالغة، واعتبرها المناطقة إحدى الصناعات الخمس إلى جانب صناعة البرهان والشعر والجدل والمغالطة، فقد تعرض لها ابن سينا في كتابه «الشفاء» والمحقق الشيخ نصير الدين الطوسي في «منطق التجريد» والعلامة الحلي في «الجوهر النضيد» وشيخنا العلامة المظفر في كتابه «المنطق» وعرّفها بأنها: صناعة علمية بسببها يمكن إقناع الجمهور في الأمر الذي يتوقع حصول التصديق به بقدر الامكان.
وعرّفت الصناعة بأنها ملكة نفسانية وقدرة مكتسبة يُقتدر بها على استعمال أمور لغرض من الأغراض، صادراً ذلك الإستعمال عن بصيرة بحسب الإمكان كصناعة الطب والنجارة والحياكة مثلاً والصناعة على قسمين علمية وعملية والخطابة من الصناعاتا العلمية النافعة.
إذن الخطابة صناعة بمعنى أنها عمل فني يتعلم الإنسان أصوله وقواعده ثم يطبقه في الخارج وهذا يحتاج إلى دِربة وممارسة طويلة حتى يتمكن من السيطرة على ناصية هذا الفن ويطّوعه لتحقيق أغراضه المطلوبة وبهذا تصبح ملكة نفسانية تجعل من تكرار الفعل الصادر عن المرء على وجه يبلغ درجة يحصل معها الفعل بسهولة ومن غير تكلف. فالعالم بأصول الخطابة وقواعدها والذي يحسن تطبيقها وتوظيفها لإقناع الجمهور بما يريد والذي تصدر عنه هذه الأشياء عن وعي وبصيرة وسهولة فذاك هو الخطيب الفنان بكثرة علمه وإطلاعه وقدرته على إيصال مراداته للمستمع المتلقي بصورة جيدة وبراعة تامة وهو سر النجاح عند كل خطيب مبدع ملك زمام هذه الصناعة فتكونت عنده الملكة التي لا تنفك عنه ولا ينفك عنها غالباً كمن يحمل ملكة الكرم ولا يسعه إلا أن يكون كريماً معطاءً مبسوط اليد حتى لو أراد غل يده إلى عنقه. يقول الشاعر في وصف كريم:
تــــراه إذا مـــــا جـئــتــه مـتـهـلــلاً كـأنـك تعطـيـه الــذي أنــت سـائـلـه
تـعـوّد بـسـط الـكـف حـتـى لــو أنــه أراد انقبـاضـاً لـــم تـطـعـه أنـامـلـه
ولـو لـم يكـن فـي كفـه غيـر نفـسـه لــجــاد بــهــا فـلـيـتـق الله سـائـلــه
قال المحقق الشيخ نصير الدين الطوسي في الجوهر النضيد: «وينتفع بها في تقرير المصالح الجزئية المدنية وأصولها الكلية كالعقائد الإلهية والقوانين العملية».
فللخطابة دور مهم ومفصلي في حياة الأمم والشعوب على اختلاف مشاربها ومآربها، بل تكاد تكون ضرورة إجتماعية في حياة الناس العامة وفي قضاياهم المختلفة العقدية والفكرية والتربوية والإجتماعية والاقتصادية والسياسية، فبالخطابة تُحل الخصومات وتفصل المنازعات وتُسن القوانين، وتُبيّن الواجبات وتُثار حميّة الجماهير للدفاع عن الكرامات وحفظ الحرمات وببركاتها يُرغب الناس في اكتساب الفضائل والخيرات واجتناب الموبقات وهي الوسيلة الأهم والأعظم للتثقيف وتوعية الشعوب وهداية الناس، ومحاولة التأثير فيهم وإقناعهم بمجمل القضايا العامة وإن جلَّ خطرها وعظم شأنها، كما نشاهده اليوم عبر الفضائيات، وفي أعظم الدول تقدماً وتطوراً كالولايات المتحدة الأمريكية مثلاً كيف أن المرشحين للسباق الرئاسي يوظفون صناعة الخطابة وبكل طاقاتها في حملاتهم الدعائية، وبيان برنامجهم السياسي لكسب الرهان في جولات السباق، والمرشح الأكثر اقتداراً على مفاصل هذه الصناعة هو الأكثر حظاً للوصول للبيت الأبيض.
إذن الخطابة رسالة شاقة ومهمة خطرة لا يقدر على حملها وأدائها بما يليق بشأنها ومكانتها إلا من منحه الرب سبحانه وتعالى مواهب متميزة ومواصفات خاصة، فهي مسؤولية الكلمة وما أدراك ما الكلمة ففي البدء كان الكلمُ وبالكلمة قامت السماوات والأرض: " إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون ". بناءً على أن المراد من القول هنا الكلام، ومثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار.
ورد عن الرسول الأعظم ﷺ أنه قال: "إن الرجل ليدنو من الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا قيدُ رمحٍ فيتكلم بالكلمة فيتباعد منها أبعد من صنعاء " ويخاطب ﷺ الصحابي الجليل أبا ذر «رض» بقوله: " يا أبا ذر ما من خطيب إلا عرضت عليه خطبته يوم القيامة وما أراد بها ". فكل كلمة قالها وكل حرف تفوه به يعاد عرضه عليه ويحاسب على كل صغيرة وكبيرة نطق بها" ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد " "إن خيراً فخير، وإن شراً فشر ".
قال شيخنا المظفر «قدس سره» وهي - أي الخطابة - وظيفة شاقة إذ أنها تعتمد بالإضافة إلى معرفة هذه الصناعة على مواهب الخطيب الشخصية التي تصقل بالتمرين والتجارب، ولا تكتسب بهذه الصناعة ولا غيرها، وإنما وظيفة هذه الصناعة توجيه تلك المواهب، وإعداد ما يلزم لمعرفة طرق اكتساب ملكة الخطابة، مع المران الطويل وكثرة التجارب كما ألمحنا لذلك سابقاً.
ومن هنا نعلم أنه ليس كل من يحمل علماً وفكراً يستطيع أن يجعل من نفسه خطيباً، وليس كل خطيب مفوه مثقف باستطاعته أن يكون خطيباً حسينياً بالمعنى المقصود والدقيق للخطيب الحسيني، فما أكثر العلماء والفضلاء وأقل الخطباء، وأقل من ذلك الخطباء الحسينيون، ومن هنا ننطلق للحديث عن مؤهلات الخطيب الحسيني الذي تشرف بحمل رسالة الحسين وهي رسالة القرآن والإسلام.
1 - سلامة اللسان
اللسان وهو من أعظم النعم التي امتنّ بها الحق على الخلق فقال سبحانه: " ألم نجعل له عينين ولساناً وشفتين " وهو أداة التخاطب والتفاهم بين البشر والوسيلة الأهم للتواصل ونقل الأفكار والتجارب للآخرين والتعبير عما في النفس والذهن قال الشاعر:
إن الـكــلام لـفــي الــفــؤاد وإنــمــا جعـل اللـسـان عـلـى الـفـؤاد دلـيـلاً
وورد عن سيد البلغاء والمتكلمين أمير المؤمنين أنه قال: «اللسان ترجمان الجنان» أي القلب - وهو أخطر جارحة يملكها الإنسان إن لم يحسن إدارتها. عن علي
: " اللسان سبع إن خُلي عنه عقر" وعنه
: " ما من شيء أحق بطول السحن من اللسان " وباللسان يوزن الإنسان ويعرف قدره ومكانته فقد ورد عن علي
أنه قال: " لسانك ترجمان عقلك " وَ " تكلموا تعرفوا فإن المرء مخبوء تحت لسانه ".
واللسان هو سلاح الخطيب الذي يصول به ويجول في ميدان المقال كما يصول المقاتل بسيفه وبندقيته في سوح القتال ولذا ورد عن علي أنه قال: " رب كلام أنفذ من سهام ". وبفضل اللسان وبركته فضل الكلام على السكوت وعرف فضل الكلام على السكوت بسببه فقد سُئل الإمام زين العابدين
لماذا فضل الكلام على السكوت؟ فقال
: لأن الله ما بعث الأنبياء والأوصياء بالسكوت، وإنما بعثهم بالكلام ولا استحقت الجنة بالسكوت، ولا استوجبت ولاية الله بالسكوت، ولا تُوقت النار بالسكوت، وإنما ذلك كله بالكلام.
فسلامة اللسان من العيوب بمعنى أن يكون فصيحاً قادراً على إخراج الحروف من مخارجها بصورة صحيحة وطلاقة تامة بأن لا يكون فأفاءً ولا تأتاءً ولا ألثغَ ولا ألكنَ ولا أعجم - فالتأتاء هو الذي يصعب عليه النطق بحرف التاؤ فيكرره عدة مرات عند النطق به، فعندما يقول تعال يقول: تتتعال، وهكذا.
والفأفاء هو الذي يصعب عليه نطق الفاء فيرددها كذلك، والألثغ هو الذي يتعذر عليه النطق بحرف فيبدله إلى آخر والحروف التي تدخلها اللثغة أربعة: القاف والسين واللام والراء، والألكن هو الذي لا يقيم العربية لعجمة لسنه. قال الجاحظ في البيان والتبيين: يقال في لسانه لكنة إذا أدخل بعض حروف العجم في حروف العرب» والأعجم أو الأعجمي هو الذي لا يفصح ولا يبين كلامه وإن كان عربيَ النسب كزياد الأعجم قال الشاعر:
ولـســتُ بـنـحـويٌ يــلــوكُ لـسـانــه ولـكــنْ سـلـوقـيٌّ أقــــول فــأعــرب
2 - حلاوة البيان وجمال اللسان:
الخطيب يحتاج إلى حسن البيان كما يحتاج إلى طلاقة اللسان أي يتلفظ الكلمات بصورة حسنة وجميلة غايةً في النظم والتنسيق، وتصدر منه بحرارة بحيث لا تموت الكلمات على شفتيه أو تخرج الأحرف وكأنها معاقة بل لابد أن يكون قادراً على الاسترسال والتسلسل في الكلام فقد ورد عن رسول الله ﷺ أنه قال: " الجمال في اللسان " وورد عنه ﷺ أيضاً: " ذلاقة اللسان رأس المال ".
قال الشاعر:
إذا انــقــاد الــكــلام فــقــدْهُ عــفــواً إلــى مــا تشتـهـيـه مـــن المـعـانـي
ولا تـــكـــره لــســانــك إن تـــــــأبَّ فـــلا إكـــراه فــــي ديــــن الـبـيــان
إن حسن البيان ليعمل عمل السحر في النفوس لأنه يسحر القلوب ويؤثر في العقول كما يؤثر سحر الساحر في مسحوره، ولذا قال ﷺ: " إن من البيان لسحراً " وكان ذلك إحدى مفاخره وخصائصه ﷺ حيث قال: "أنا أفصح من نطق بالضاد بيدَ أني من قريش واسترضعت في بني سعد " أفصح القبائل العربية.
3 - بلاغة الكلام:
أي مطابقته لما يقتضيه حال الخطاب مع فصاحة ألفاظه مفردها ومركبها والكلام البليغ هو: الذي يصوره المتكلم بصورة تناسب أحوال المخاطبين وحال الخطاب ويسمى «المقام» فإن اختلاف الظروف يقتضي هيئة خاصة في التعبير ولكل مقام مقال فعلى الخطيب ملاحظة المقام أو الحال وهو الأمر الذي يدعوه إلى أن يورد كلامه على صورة خاصة تتناسب وغرضه، وتلك الصورة الخاصة التي يورد عليها تسمى «المقتضى» أو الاعتبار المناسب. فمثلاً الوعيد والزجر والتهديد مقام يقتضي كون الكلام فيه فخامة وجزالة عكس البشارة بالوعد واستجلاب المودة مقام يتطلب رقة الكلام ولطفه والوعظ مقام يوجب البسط والاطناب، ولابد من ملاحظة كون المخاطب عاميّاً بسيطاً أو عالمأً متعلماً من الخاصة والعامة. والبلاغة ملكة في النفس يقتدر بها صاحبها على تأليف كلام بليغ. ومما قيل في وصف البلاغة: لا يكون الكلام يستحق اسم البلاغة حتى يسابق معناه لفظه ولفظه معناه، فلا يكون لفظه إلى سمعك أسبق من معناه إلى قلبك.
ولابن المعتز كلام في البلاغة حيث يقول: أبلغ الكلام ما حسن إيجازه وقلّ مجازه، وكثر إعجازه، وتناسبت صدوره وأعجازه. أي أن يكون اللفظ محيطاً بمعناه كاشفاً عن مغزاه، ويكون سالماً من التكلف بعيداً من سوء الصنعة، غنياً عن التأمل. وورد عن رسول الله ﷺ أنه قال: " إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نخاطب الناس على قدر عقولهم ".
وربما يندرج في هذا المضمار أعني بلاغة الكلام ما يجب أن يكون عليه حال المتكلم فيما يتعلق بإشارات يده التي يلزم أن تكون منسجمة مع موضوع حديثه وكذلك ملامح وجهه التي يجب أن تكون تعبيراً واضحاً عن انفعالاته المتناسبة مع طرحه من ابتسامة عريضة إذا كان الحديث عن فرح وبشارة مثلاً، وعبوس وجه إذا كانت المناسبة حزينة، وكذلك نبرة الصوت فإن لها جرساً لابد أن يتفاعل مع صورة الكلام الملقى على الحاضرين.
4 - حسن الصوت ورخامته:
إن أحدنا ليشعر بلذة غامرة وراحة ظاهرة إذا سمع صوتاً حسناً رخيماً جميلاً، ولربما يصل به إلى حد الإطراب وهذه فطرة فطر الله الناس عليها وهي تدل على تذوق هذا الكائن الإنساني لمعاني الجمال والكمال الذي أودعه الله سبحانه وتعالى في مخلوقاته ومن جملتها الصوت الحسن وهذا الشعور يكشف عن نفس سليمة جميلة ولذا ورد: «من لم يطربه الناي وأوتاره، والربيع وأزهاره، فهو فاسد المزاج يحتاج إلى علاج»
والــــذي نـفــســه بـغــيــر جــمـــال لا يـرى فـي الـوجـود شيـئـاً جمـيـلاً
وفي المقابل تستثقل النفس الأصوات الخشنة وتمجها وتكره سماعها وتنفر منها ولذا ورد التأكيد على اختيار ذوي الأصوات الحسنة في الأذان والدعاء والقرآن وكم من الناس قد اهتدى إلى الحق لسماعه دعاء أمير المؤمنين الذي رواه كميل أو دعاء الإمام السجاد
الذي رواه أبو حمزة «السحر» أو دعاء الإمام الحسين يوم عرفة، وهناك الكثير من الحكايات التي تدلل على ذلك.
كما أن الأصوات النشاز المنفرة التي تقرع الآذان تنفر الناس من الدين وتعاليمه السمحة. والشهيد المطهري «قده» ينقل قصة في كتابه الملحمة الحسينية «68» عن الشاعر الإيراني الكبير سعدي قال: «كان مؤذن في إحدى المدن يتميز بصوته النشاز البشع، ومرت الأيام وإذا بيهودي قد أقبل يوماً وقال له خذ مني هذه الهدية البسيطة؟ فقال له: لماذا؟ فقال له اليهودي؟ لأنك قد خدمتني خدمة كبيرة. فسأله المؤذن: وما هي الخدمة؟ فأنا لم أخدمك بشيء. فقال اليهودي: إن لي بنتاً كانت قد بدأت منذ مدة تميل إلى اعتناق الدين الإسلامي ولكنها منذ أن بدأت تسمع أذانك عادت إلى رشدها وبدأت تشمئز من الإسلام وأنا الآن بدوري فرح لأنك ساهمت بعودة ابنتي إلى دينها، فجئت لك بهذه الهدية! وهذا شيء يؤلم في الواقع، فشتان بين أذان يرفع بصوت جميل رخيم تختلج أحاسيس القلب وتطرب حينما تسمعه، ويكون سبب هداية، وآخر يرفع بصوت بشع تنقبض منه النفوس وتنفر منه الآذان ويكون سبب ضلال وغواية. ما أعجب هذا الأمر!
ورد عن رسول الله ﷺ أنه قال: " إن من أجمل الجمال الشعر الحسن، ونغمة الصوت الحسن " وعنه ﷺ قوله: " زينوا القرآن بأصواتكم فإن الصوت الحسن من يزيد القرآن حسناً " وروي عن الصادق : " كان علي بن الحسين صلوات الله عليه أحسن الناس صوتاً بالقرآن وكان السقاؤو
ن يمرون فيقفون ببابه يسمعون قراءته وكان أبو جعفر أحسن الناس صوتاً ".
فالصوت الحسن له جاذبية وتأثير عظيم على النفوس وهو عنصر مهم من عناصر نجاح الخطيب، ولا سيما الخطيب الحسيني الذي يعمد في كثير من أطواره على نغمة الصوت الحسن، وهناك مؤهلات ومقومات أخرى لا تقل أهمية عما ذكر، كحسن الصورة والمنظر، وقوة الحافظة، والذكاء والفطنة والذوق السليم والشجاعة الأدبية والمؤهلات العلمية وحسن الخلق وحلاوة المعاشرة والتواضع والرفق والمداراة وسائر المواصفات الذاتية والأخلاقية التي لا يسع المجال لبسط الحديث فيها.
وكل هذا وذاك من المؤهلات والمواصفات هي التي جعلت فقيدنا الكبير عميداً للمنبر الحسيني ورائداً من رواد الحركة الدينية والعلمية والثقافية، ومجدداً قلَّ نظيره. استطاع أن يخطف الأضواء ويستهوي العقول والقلوب لأكثر من أربعة عقود، كان فيها القطب والرحا في مسيرة الحركة الخطابية على مستوى البلاد وما حولها فطبقت شهرته الآفاق، واستفاد من عطاء منبره القاصي والداني، وكلنا تربينا تحت أعواد منبره المبارك، ولكن لم يكن ذلك كله كافياً ليجعل منه تلك القامة الشامخة، وإن كانت هذه المؤهلات والتي حملها بامتياز بمثابة الأرضية التي بنى عليها أمجاده وتألقه وإبداعه، لكن الأهم من ذلك كله هو إخلاصه وصدقه وأمانته في حمل رسالة المنبر وجهاده الطويل في تزكية نفسه وتهذيبها من الخصال الرذيلة والصفات الذميمة، وتحليتها بمكارم الأخلاق ومحامد الخصال، كان يتمتع فقيدنا الكبير بنقاء السريرة، وصفاء الباطن، وجمال الروح، كان في أعلى مستويات الإخلاص للمنبر وللقضية الحسينية، وهذا ما يتطلب مجاهدة تامة ومراقبة دائمة لئلا ينزلق خادم المنبر والحسين في مزالق الشيطان، فكان إخلاصه ونيته مطيته. أصلح ما بينه وبين الله فأصلح الله ما بينه وبين الناس، أصلح أمر آخرته فأصلح الله له أمر دنياه، ومن كان له من نفسه واعظ كان من الله عليه حافظ.
ورد عن النبي ﷺ أنه قال: " قال الله عز وجل «لا أطلع لى قلب عبدٍ فأعلم منه الإخلاص لطاعتي لوجهي وابتغاء مرضاتي إلا توليت تقويمه وسياسته».
لم يتخذ الخطابة مهنة ووظيفة لسد حاجاته المادية بل حملها رسالة وأمانة إلهية مقدسة على حد قول الشاعر الكبير محمد سعيد الجشي "أبي رياض" «ره»:
ذكــرى الحسـيـن رسـالـة لا مهـنـة وبــهــا تــمــزق لـلـظــلام سـتــائــر
ولهذا كانت خطاباته وكلماته لها وقع كبير في نفوس مستمعيه مصداقاً لقول أمير المؤمنين : " الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب، وإذا خرجت من اللسان لم تجاوز الآذان». أخلص لمولاه فاصطفاه لنفسه وصاغه بعنايته ورعايته كما قال تعالى: ﴿ولتصنع على عيني﴾ نعم لقد كان صادقاً مع الله سبحانه، باراً بسادته ومواليه محمداً وآل محمد
فأفاضوا عليه من بركاتهم ولطفهم الكثير الكثير الذي تجلى واضحاً في عناية سيد الشهداء
له منذ نعومة أظفاره ويوم رحيله ومابعده وفي كل محطات حياته.
وقداستطاع أن يملك قلوب كل عارفيه، أحب الناس فأحبوه وكرس كل حياته في خدمة الدين وأهله، ولم يتوانَ عن واجب ديني أو إجتماعي يصب في مصلحة مجتمعه وهذا هو سر تمسك أصحاب المجالس به لعقود طويلة، هو عشقهم له: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً» وقد تجلت هذه المحبة والمودة لشخصه الكريم في عدة وقفات في حياته الحافلة بالعطاء حينما مرض بالقلب، وحينما تناهى إلى الأسماع نبأ رحيله المفاجئ الذي أذهل العقول وفي موكبه الجنائزي المهيب الذي رسم عشاقه ومحبوه من كل أنحاء البلاد لوحة وفاء قل نظيرها لرجل قدم كل ما يملك من أجلهم، ولم تشهد جزيرة تاروت في تاريخها الطويل المليء بالأمجاد والذي يمتد لعشرة آلاف عام جنازة بهذا المستوى كماً وكيفاً حيث لم يبقَ أحد من أهالي الجزيرة وما حولها إلا وشارك في مراسيم تشييعه بكل حزن ولوعة وحسرة على فقد عميدهم.
عزَّ علينا سيدي يا أبا أحمد أن نقف لنؤبنك وننعاك وأنت الذي أبّنت الآباء والأمهات ونعيت الأحبة وضمدت جراحات الخطوب الفادحات ومسحت على القلوب المثكولة بفقد حبيب أو عزيز، لكنك أضحيت اليوم جرحنا النازف الذي لا نجد من يشده ويضمده وألمنا الأبدي الذي نبحث عمّن يخففه ويسكنه فنرجع خائبين. فما أشد مصابنا بك وما أحر لوعتنا عليك.
فـي ذمــة الله مــا نلـقـى ومــا نـجـد أهـــــذه صــخـــرة أم هـــــذه كــبـــد
قـد يقتـل الحـزن مـن أحبابـه بعـدوا عـنـه فكـيـف بـمـن أحبـابـه فـقــدوا
إنــا إلــى الله قـــول نسـتـريـح بـــه ويستوي فيه من دانوا ومن جحدوا
نعم أنت الذي عناك شاعر العربية الأكبر الجواهري حيث قال:
فـيـالـك مـــن مـرهــم مـــا اهـتــدى إلــيـــه الأســـــاة ومـــــا رهــمـــوا
ويــالـــك مـــــن بـلــســم يُـشـتـفــى بـــــه حــيـــن لا يـرتــجــى بـلــســم
ويـــا لـــك مــــن مـبـســمٍ عــابــسٍ ثــغـــور الأمــانـــي بــــــه تـــبـــس
أنت الذي أبكيت عيوننا وأجريت دموعنا وأقرحت جفوننا بصوتك الملائكي الشجي وأنت تنعى الحسين والعترة الطاهرة من أهل بيته وكانت دمعة المستمع بيدك تقلبها كيف تشاء، واليوم تبكيك المنابر والمحاجر والحناجر والمشاعر.. فسلام عليك أيها الراحل العاشق الواثق بما وعد الله الصالحين من عباده الذين أحبو لقاءه فأحب لقاءهم واشتاقوا إليه فاشتاق إليهم لما فرّغوا قلوبهم إليه وتقطعت أوصالهم من محبته فماتوا شوقاً لرضوانه.
سلام عليك يوم تشرفت رُبى تاروت ببزوغ نجمك الذي أضاء قلوب كل العاشقين للحبيب المصطفى وآله، ويوم عرجت روحك الطاهرة الوالهة لتعانق أرواح النبيين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقاً.
ستبقى يا أبا أحمد شاخصاً في ذاكرة الوطن الذي أحببته فبادلك الحب واحتضنته قضية فاحتضنك، وبذلت كل وجودك لأجله - ستبقى ما بقي الدهر لأنك صاحب رسالة خالدة وصوت من أصوات الحق ولسان من ألسنة الصدق - ستبقى لأنك مما ينفع الناس ولست من الزبد الذي يحتمله السيل ليلقيه في الساحل «وأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض».
نم قرير العين فأنت من القلة من الرجال الذين صدقوا ماعاهدوا الله عليه وأشهد أنك أديت الأمانة وحملت الرسالة وأقمت الصلاة وأديت الزكاة وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر وأطعت الله ورسوله وأولياءه حتى أتاك اليقين، كنت - والله - كما قال إمامنا زين العابدين : اللهم فاجعل نفسي مطمئة بقدرك راضية بقضائك مولعة بذكرك ولقائك محبة لصفو أوليائك محبوبة في أرضك وسمائك صابرة على نزول بلائك... إلخ.
أرح ركابك سيدي ولا تخف ولا تحزن فقد ملأته بتقوى الله وأنت تعظم شعائره.. ترجّل أيها الفارس عن صهوة جوادك فإنك من جند الله وإن جنده هم الغالبون ومن حزبه إن حزبه هم المفلحون ولسان حالك يقول: اللهم فاجعل نفسي صابرة على نزول بلائك شاكرة لفواضل نعمائك، ذاكرة لسوابغ آلائك، مشتاقة لفرحة لقائك متزودة التقوى ليوم جزائك مفارقة لأخلاق أعدائك مشغولة عن الدنيا بحمدك وثنائك ".
أرح ركابـك مــن أيــنٍ ومــن عـثـر كفـاك جيـلان محمـولاً عـلـى خـطـر
كفـاك موحـش درب رحــت تقطـعـه كـــأن مِـغْـبـرُّهُ لــيــل بــــلا ســحــر
ويا أخا الطيـر فـي ورد وفـي صـدر فـي كـل يـوم لـه عـش علـى شـجـر
إرحل عنا فلن ننساك وسنعقد لك مآتم في آماقنا وقلوبنا وسنندبك صباحاً ومساءً فأنت من علمتنا أصول النياحة وألهمتنا أبجديات البكاء على سيد الشهداء .
سننعاك حتى نلقاك لأن الحياة غدت باهتة لا لون لها ولا طعم بلا محياك، ولأنك أيها العزيز تعجلت السفر وغادرتنا بلا شبيه ولا نظير لك.
ومـن نـوب الدنيـا بقـاؤك بـعـد مَــنْ إذا رحـلــوا أبـقــوك دون مـشـابــه
فوجـه إذا مـا غــاب تبكـيـه سـاعـة ووجــه تـمـل الـعـمـر بـعــد غـيـابـه
وتـدفــن فـيــه بـالـثـرى إن دفـنـتــه وجـودك إن المـرء بعـض صحـابـه
وإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وصلى الله على سيد الخلق محمد وآله الطاهرين