النخلة وبقاء التشيع في القطيف
كما ورد عن الرسول ﷺ: «نعم العون على الدين الغنى». إن في ذلك تصوير عظيم لمدى تأثير الغنى الاقتصادي في حياة الأفراد والمجتمعات على الصعيد الديني والسياسي والاجتماعي بشكل عام، ونعني أن وفرة النخيل بواحة القطيف كانت خير مثال على ذلك. فقد اشتهر إقليم البحرين - كما يذكر التاريخ - بغناه الاقتصادي على مر الحضارات التي سكنت المنطقة، إذ أنه تمتع بأهمية اقتصادية فريدة اعتمد عليها في قيام الدولة الإسلامية وما حصل من أحداث تاريخية في طمع بعض الدول بالسيطرة عليها. إلا أن تلك الأحداث التاريخية انقلبت رأساً على عقب. من هنا يأتي السؤال المراد: إذا ما كان الغنى الاقتصادي عنصراً أساسياً في الحفاظ على الهوية الاجتماعية والدينية لأي شعب، فما المبرر من غياب السلك الديني عن تشجيع الحركة الاقتصادية وتنمية النخيل في الواحة؟. إن للسلك الديني أهمية كبرى في زرع الدوافع والمحفزات بما يملك من صوت مسموع في مجتمع القطيف لتشجيع قيام حركة اقتصادية مما تزرع وتصنع وقد بدى واضحاً غياب التغني بدور النخلة الاقتصادي في رفعة مكانة القطيف قديماً بهذا الوسط والذي ما غاب في أحاديث الرسول ﷺ.
إن أول الاعتبارات ذات الدافع المحفز لهذه الدعوى هو توفر القطيف على إمكانات اقتصادية كبيرة قديماً وحتى يومنا هذا وإن جهلناها. فإلى جانب الثروات الاقتصادية الحديثة المتمثلة في النفط والغاز وما يصاحبهما من فرص اقتصادية هائلة، هناك على الجانب الآخر الثروات الطبيعية المتمثلة في كثرة النخيل ووفرة المحاصيل الزراعية على الأخص محصول التمور، إضافة لصيد الأسماك، بالتوجه إلى تقوية تجارتها الرائجة اليوم، والتي كانت تصل قديماً لأغلب المدن المجاورة لها من عمان وإيران والعراق واليمن. من هنا كان لزاماً تشجيع مختلف الفئات الشعبية نحو استثمار هذه الإمكانات الكبيرة الرائدة في قيام اقتصاد للتمور قوي محلياً.
أما ثاني الاعتبارات فهو تحقيق الاكتفاء الذاتي. فقد كانت وفرة الثروات الطبيعية على الخصوص نخيلها وتمورها _كما ورد في الأحاديث النبوية_ عنصراً هاماً جعل المنطقة تتمتع بالاكتفاء وغنى دائم عن غيرها قديماً، بل وجعل منها مطمعاً لبعض القوى، حيث أن القطيف دعمت التمويل الغذائي والمادي الذي قامت به الدولة الإسلامية ثم السعودية. فقد أورد لنا التاريخ عن الأموال الهائلة لإقليم البحرين «بلاد البحرين والقطيف وهجر» والذي كانت عاصمته القطيف في دعم قيام الدولة الإسلامية الأولى بعهد الرسول ومن خلفه بما رفدته من أموال الزكاة، والمساهمة في تدبير أمور العاصمة الإسلامية بالمدينة المنورة، فقد ساهم ذلك في بناء الجيش الإسلامي، وتسليحه ورفع الضائقة الإقتصادية بما فيه رفع المستوى المعيشي للناس آنذاك، وقد كان لذلك أهمية كبيرة في امتداد رقعة الإسلام، ومقاومة غطرسة قريش وجبروتها. كل ذلك لم يكن ليتسنى لولا أن هناك أيد عاملة ”بواحة القطيف تحديداً“، والتي استطاعت بوفرة ثرواتها وامتياز الحركة الاقتصادية تحقيق الإكتفاء الذاتي أولاً والقيام بعنصر التمويل تاليأ.
وثالث الاعتبارات الحفاظ على الهوية الاجتماعية والدينية للقطيف. إذ لابد من إدراك أن الفقر ربما يشكل الخلل في البنية الاجتماعية والدينية والتمسك بها وبمعنى آخر هو أن الفقر محفز للخلخلة في أي مجتمع. إن بقاء التشيع منذ عهد الرسول ﷺ وحتى يومنا هذا، ينطوي على دلائل ضمنية ذات صلة وثيقة بالمكانة الاقتصادية، وقد برز ذلك جلياً في عهد الدولتين الأموية والعباسية اللتان فشلتا في السيطرة عليها بسبب الاختلاف الفكري الذي عارضه بني عبدالقيس سكان القطيف آنذاك، فضلاً عن الصراعات التي صاحبت دخول الحركات الفكرية والسياسية المتمردة لواحة القطيف من قبيل حركة الخوارج والقرامطة وغيرهم. إلا أن جميع تلك الصراعات لم تغير من هوية القطيف الدينية قيد أنملة لأسباب عدة يقع الإقتصاد في أهمها.
لا يغيب عنا أن الوسط الديني يمتلك صوت مسموع في المجتمع، لذلك تقع على عاتقه مهمة كبيرة نحو تشجيع قيام الحركة الاقتصادية التي طالما امتدحها الرسول ﷺ من جديد التي تستثمر فيها الإمكانات الكبيرة التي تتمتع بها القطيف على المستوى الزراعي بنخيلها، والسعي نحو تحقيق الإكتفاء الذاتي الذي يقتات منه المجتمع القيم المعنوية التي ترسخ تمسكه بأرضه، وصولاً إلى الحفاظ على الهوية الإجتماعية والدينية للمنطقة فالكل يعلم بأن المجتمعات الأكثر قوة اقتصادياً هي المؤثرة وغيرها من المجتمعات متأثر وهذا ما حصل في القطيف فكانت مؤثرة على المجتمعات التي حولها والفضل يرجع للنخلة، وكما قيل «لا خير في أمة لا تأكل مما تزرع ولا تلبس مما تصنع» فهل سنرى خطاباً يوفي النخلة حقها؟ فلولاها لما صمدت العمائم في القطيف.