آخر تحديث: 19 / 12 / 2025م - 4:42 م

بين عسعسة الليل وتنفّس الصبح: إشراقات بيانية من بلاغة القرآن

البنية التصويرية للحركة الزمنية في القرآن: قراءة في سورة التكوير

﴿وَالصُّبحِ إِذا تَنَفَّسَ * إِنَّهُ لَقَولُ رَسولٍ كَريمٍ [التكوير: 18 - 19]

تُعدّ الآيات القرآنية التي تصوّر تحوّلات الزمن من أرقى نماذج البيان العربي، إذ تجمع بين الدقّة اللغوية وعمق الدلالة وجمال الإيقاع. ويبرز في سورة التكوير مشهدٌ بيانيّ فريد يرسم حركة الليل في انصرافه، وحركة الصبح في انبعاثه، بألفاظ قليلة تحمل معاني واسعة. ويهدف هذا البحث إلى استكشاف البنية التصويرية للحركة الزمنية في هاتين الآيتين، من خلال تحليلٍ لغويّ وبلاغيّ يكشف عن أسرار التعبير القرآني. كما يسعى إلى بيان كيف تتحوّل الظواهر الكونية في الخطاب القرآني إلى مشاهد حيّة نابضة بالمعنى والإيحاء.

لفظة «عَسْعَسَ» في قوله تعالى: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ من الأفعال الرباعية المكرّرة، وهي من صيغ الألفاظ التي تحمل في ذاتها معنى الحركة المتدرّجة المتتابعة. وأصل مادّتها «ع - س - ع - س» تدلّ على انتقال الليل في طرفيه، عند أوّل قدومه وعند آخر انصرافه، لأن العرب تقول: عَسْعَسَ الليلُ إذا أقبل، وتقول أيضًا: عَسْعَسَ* إذا أدبر. وقد توسّع أهل اللغة في بيان أنّ هذا الفعل لا يقف عند معنى الظلمة ولا الضياء، بل يشير إلى تحرّك الليل نفسه في لحظات تغيّر حاله

عسعسة الليل: تحليل لغوي بلاغي

إنّ قوله تعالى: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ يحمل في طيّاته لفظًا من أرقى ألفاظ العربية إيقاعًا ودلالة؛ فالفعل «عَسْعَسَ»—بما فيه من تكرار الحروف وتلاحق الأصوات—يشير إلى حركة الليل الخفيّة، تلك الحركة التي لا تُدرك بالعين قدر ما تُستشعر بالوجدان. فهو فعل رباعيّ يرسم صورة الليل في حالَي تحوّله: ساعة يُقبِلُ بظلمته، وساعة يُدبِرُ متخفّفًا من سواده.

غير أنّ الأنسب للسياق—وخصوصًا لمجيء الآية بعدها ﴿وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ —أن يكون المقصود ب«عَسْعَسَ» إدبارُ الليل وانقضاؤه

وقد قال اللغويون: إنّ العرب توسّعوا في هذه المادّة حتى جعلوها شعارًا لتحرّك الليل، وجعلوا من العَسّاس اسمًا لمن يطوف فيه حارسًا، كأنّ الفعل في أصله يصف مسيرًا متلبّسًا بالحذر والهدوء.

التصوير البياني لحركة الزمن في القرآن الكريم:

من دقائق البلاغة أنّ عسعسة الليل ليست وصفًا جامدًا، بل هي حركة تتداعى إلى الذهن شيئًا فشيئًا، كما يتداعى ضوءُ الفجر عند انفلاق الصبح؛ إذ يأتي بعده مباشرة قولُه سبحانه: ﴿وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ، فتنفتح المقابلة بين مشهدين:

مشهد ليلٍ ينصرف بخطوات متراجعة، ومشهد صبحٍ يقبل بأنفاس متعالية.

فكأنّ الليل في عسعسته يتنقّل، والصبح في تنفّسه ينبعث؛ وبهذا الالتحام البياني تتجلّى براعة التعبير القرآني في رسم الحدّ الفاصل بين آخر الليل وأوّل النهار.

تنفس الفجر: جمال التصوير القرآني

قوله تعالى: ﴿وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ

تجمع بين دقائق اللغة وروح البيان القرآني:

1. تشخيص الصبح وإحياؤه

جعل القرآن الصبح كائنًا حيًّا يتنفّس، وهذه استعارة تُحيل الفجر من ظاهرة كونية إلى مخلوقٍ ينبض، يُقبل، ويملأ الوجود حياة، فالضوء لا يُشرق فقط… بل يتنفّس، كأنّه يخرج من صدر الليل بعد طول كتمان.

2. الانبعاث بعد الاحتباس

الفعل «تَنَفَّسَ» يدل على خروج النفس بعد ضيق، فيوحي بأن الصبح يأتي إثر قبضةٍ من الظلام، وبأنّ الفجر ليس مجرّد ضياء، بل تحرّرٌ من حبس الليل.

إنه مشهد انفراج… وولادة.

3. الحركة الهادئة لا الانفجار المفاجئ

لم يقل: والصبح إذا أضاء أو انشقّ أو طلع، بل قال: تَنَفَّسَ.

النَّفَسُ تدريج، رقّة، امتداد.

والفجر كذلك: لا يطهَر دفعةً واحدة، بل يظهر مثل زفيرٍ لطيف ينساب فوق الكون.

4. تلاقي النفس والضوء

في هذا التعبير تكامل بديع بين الإحساس والإبصار:

• النفسُ يُدرَك بسماع خفيّ أو إحساس داخلي

• والضوءُ يُدرَك بالبصر

فجمع التعبير بين الحواس، ليجعل لحظة الفجر حدثًا شاملًا تحضره النفس والبصيرة معًا.

5. دلالة الحياة

التنفّس أوّل علامات الحياة؛ فكأنّ الصبح يحيا، والكون نفسه يستيقظ، والأشياء تُبعث من جديد، فكل شروقٍ هو قيامة صغيرة، وكل فجرٍ روحٌ تُعاد.

6. الارتباط بالمشهد السابق

جاء هذا بعد قوله: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ

حيث الليل يمضي متراجعًا في صمت، والصبح يجيء بعده متنفّسًا في لطف.

إنّها مقابلة بين انسحاب وقدوم، بين إدبارٍ متعب وإقبالٍ منتعش.

وفي الختام، يتبيّن أن التصوير القرآني لتحوّل الزمن في سورة التكوير لا يقتصر على بيان تعاقب الليل والنهار، بل يتجاوز ذلك إلى بناء مشهد حيّ تتداخل فيه الحركة والإحساس والدلالة. فقد جاءت ألفاظٌ مثل «عَسْعَسَ» و«تَنَفَّسَ» حاملةً أبعادًا لغوية وبلاغية عميقة، تُجسّد انسحاب الظلمة وبعث النور في صورةٍ موحيةٍ آسرة. ويؤكّد هذا التحليل جانبًا من الإعجاز البياني للقرآن الكريم، حيث تتجلّى قدرته على الجمع بين الإيجاز والعمق، وعلى تحويل الظواهر الكونية إلى معانٍ تتجدّد بتجدّد التأمّل والتدبّر.

ما أعظم بلاغة القرآن الكريم!

كلامٌ يأسر العقول قبل القلوب، ويخاطب الفطرة قبل اللسان، فتجده في لفظه غاية الإيجاز، وفي معناه نهاية الإعجاز. آياته تُحكم العبارة، وتُدهش البيان، وتجمع بين العمق والبساطة، فلا يمله سامع ولا يشبع منه متدبر. كل حرف فيه موضوع بميزان، وكل كلمة جاءت في موضعها، حتى صار القرآن حجة خالدة، ومعجزة قائمة، يتجدد إعجازها كلما تجدد النظر والتأمل.

استشاري طب أطفال وحساسية