آخر تحديث: 19 / 12 / 2025م - 4:42 م

في ذروة الاكتمال

نصّ عن الفرح حين يلامس الفقد

نازك الخنيزي

لا يأتي الحزن إلى الفرح زائرًا.

يأتي كتحوّلٍ داخليّ يعيد تشكيل الروح، يبدّل خرائطها الصامتة، ويترك في الوعي أثرًا لا يُرى، ويعرفه القلب وحده حين يلامس جدارَه من الداخل.

كانت الليلة مهيّأة للاكتمال.

زفاف الابن لحظةٌ تتقدّم فيها الحياة خطوةً واضحة، خطوةٌ تحمل وعد الاستمرار: بيتٌ يُفتح، معنى يمتدّ، تعبٌ قديم يجد مبرّره. وحين يبتسم الأبوان في تلك الليلة، لا يبتسمان للطقس وحده، بل لما يرَيانه يتحقّق أمامهما: عمرٌ لم يذهب هباءً، وحلمٌ وجد طريقه إلى الواقع.

ثم وقع الخبر.

في اللحظة التي كان فيها الصوت يستعدّ للارتفاع، عاد إلى الداخل.

وفي اللحظة التي كانت القاعة تُضاء، انطفأ شيء في الجهة العميقة من القلب. لم تتغيّر المناسبة وحدها؛ تغيّر ترتيب المشاعر. صار الفرح واقفًا على تخوم الارتباك، وصار الحزن في مركز المشهد، بهيئةٍ هادئة لا تحتاج إلى إعلان.

غياب الخال في ليلة الزفاف ليس حادثةً تُروى.

إنه شرخٌ يُضاف إلى تاريخ العائلة، فيمنحه وجهًا آخر منذ تلك الساعة. الخال في الذاكرة الجمعية ليس اسمًا زائدًا في شجرة القرابة؛ هو الاستناد غير المعلن، هو النظام الذي يحفظ توازن البيت من الداخل. حضوره كان يُفهم دون شرح، ويمنح الطمأنينة شكلًا عمليًّا: خطوةٌ تتقدّم حين تتباطأ الخطوات، يدٌ تستقرّ حين ترتجف الأرواح، صوتٌ يعيد ترتيب اليوم دون ضجيج.

وحين يغيب هذا المعنى فجأة، لا يغيب شخص فقط؛ يغيب نظامٌ كامل من الأمان.

هنا تتجلّى قسوة التوقيت.

الفرح يفتح الإنسان على العالم، يخفّف حذره، ويضع القلب في حالة استقبال. وفي لحظة الاستقبال تحديدًا، تكون الصدمة أعمق؛ لأنها لا تصطدم بدرع، بل بما خلف الدرع، بالجزء الذي صدّق للحظة أن الأشياء ستستقرّ أخيرًا.

كيف يحتمل القلب صورتين في آنٍ واحد؟

ابنٌ يعبر إلى بيتٍ جديد، وخالٌ يخرج من الحياة.

يدٌ تُزيَّن بالخاتم، ويدٌ تُغلَق عليها الأرض.

ذاكرةٌ تُكتب بالضياء، وذاكرةٌ تُختم بالفقد.

في هذا الموضع، يفقد مفهوم الاختيار معناه.

لا أحد يختار بين الفرح والحزن هنا. ما يحدث أقرب إلى اتّساعٍ مؤلم: أن تتّسع الروح لجهتين متقابلتين دون أن تنهار، وأن تحاول البقاء واقفة فيما يتنازعها اتجاهان.

ولا شيء أثقل من مطالبة الداخل بالتماسك، فيما التصدّع يعمل بصمت.

الحزن، في عمق التجربة، لا يصادر ما مضى.

يعيد وضعه في موضعه الحقيقي، ويمنحه وزنًا لم يكن ظاهرًا قبل الغياب. يعلّم الامتنان بطريقةٍ جارحة: أن الجميل كان هبة، وأن الحضور لم يكن مضمونًا، وأن الذين ملأوا حياتنا بدوا دائمين فقط لأننا أحببنا تصديق ذلك.

ومنذ تلك الليلة، لم يعد الزفاف تاريخًا صافياً في الذاكرة.

صار موعدًا ذا وجهين. في كل عام، حين يعود اليوم نفسه، يخرج الخال من الغياب أولًا، ثم يأتي الفرح. تسبق صورته الفكرة، ويتقدّم حضوره في الوجدان كأنه يقول: لا تُقصوني عن هذا اليوم، فقد كنت جزءًا من البيت الذي بدأتم بناءه.

وهكذا يمضي الفرح متحوّلًا.

يمضي بصوتٍ أخفّ، وبوقارٍ أعلى، وبوعيٍ يعرف حدوده. والبيت الجديد يُبنى، ومعه وصية غير مكتوبة: أن يظل الخال حاضرًا في التفاصيل، في الدعاء، في الحكايات الصغيرة، في صورةٍ لا تُنزَل عن الجدار، في اسمٍ يُذكَر دون مناسبة.

الموت في تلك الليلة لم يُنهِ الحياة.

ترك فيها ندبةً جعلتها أكثر صدقًا.

لم تكن تلك الليلة مناسبةً واحدة.

كانت درسًا قاسيًا في تربية القلب:

أن الضوء قد يبلغ ذروته، ثم يتصدّع،

وأن الإنسان، مع ذلك،

يواصل الخفقان.