آخر تحديث: 19 / 12 / 2025م - 4:42 م

المكتبات والسجون

يوسف أحمد الحسن * مجلة اليمامة

لم يَعْدُ الكاتب الفرنسي فيكتور هوجو الحقيقة حينما قال: ”افتح مكتبة تُغلق سجنًا“؛ ذلك أن الجهل - من ضمن أمور أخرى - من أهم دواعي السجن؛ إذ إنه السبب الأول في ضيق العقل وضحالة التفكير ومحدودية الأفق.

فالجهل هو المدرسة التي يتخرج فيها قاطنو السجون، أما المكتبة فتخرِّجُ العلماءَ والكُتّاب والمفكرين الذين توسع رؤيتهم وتجعلهم ينظرون إلى العالم بزاوية أوسع مما تراه العين. فحين يدخل الناس المكتبة وينهلون من كتبها فإنهم بذلك يخرجون من سجون العقل إلى الآفاق الرحبة للكتب، ويتعرفون على آخر ما توصل إليه البشر من أفكار وآراء ومبتكرات جديدة، كما تزداد لديهم حالة التعاطف مع الآخرين عند قراءة قصصهم ومعاناتهم في متون الروايات التي تعكس ذلك بدقة، خالقةً هذه الحالة لديهم.

إن المكتبات التي تضم نفائس الكتب إنما تضم أفضل وأرقى العقول في العالم، لكنها على شكل سطور داخل الكتب، تنتقل بالقراءة إلى عقول من يقرؤها، منعكسة على سلوكه ونظرته إلى الأمور. فهذه السطور تتجاوز مجرد كونها رموزًا سوداء على أوراق بيضاء، أو حروفًا مضيئة على شاشات ذكية أو محمولة، لتجسد تجارب سنوات طويلة للكتّاب قد تصل إلى عقود، نقرؤها في أوقات وجيزة جدًّا، ونستفيد منها فلا نقع في أخطاء وقع فيها آخرون، ليس السجن أقلها كلفة.

ولا يمكن مقارنة ما نتعلمه من علوم في المكتبات بالعلوم التي نتعلمها في المدارس؛ لأن هذه الأخيرة إجبارية، أما كتب المكتبات فيختارها القارئ بملء إرادته، ويقرأ ما يحب فقط مما يشبع فضوله، ويجيب عن تساؤلاته، ويغذي رغباته في المتعة الحلال التي تملأ فراغات الذهن بكل ما هو مفيد؛ ففي المكتبات تعد القراءة مكافأة للقارئ لا عقابًا كما قد يعدها البعض في المدارس.

وتؤكد الإحصاءات أن 70% من سجناء الولايات المتحدة لا يستطيعون القراءة بمستوى رابع ابتدائي، وأن نسبة الأمية بين سجنائها 75%. وتضيف بعض الإحصاءات أن 85% من الأحداث المسجونين يعانون ضعفًا شديدًا في القراءة، وهكذا الأمر أيضًا في دول أخرى.

ولدينا نحن المسلمين أفضل الأمثلة التاريخية على علماء ومفكرين كانوا يقطعون الفيافي والقفار بوسائل النقل البدائية، مع ما في ذلك من أخطار ومعاناة، من أجل الحصول على كتب سمعوا عنها. كما يُحكى عن الكاتب الأمريكي الأسود ريتشارد رايت «1908-1960 م» أنه عانى هو وأبناء جيله من الأمريكيين السود من التمييز العنصري حتى في دخول المكتبات العامة؛ ولكنه لما كان مدركًا لأهمية المكتبة فقد صمم على القراءة، واستعار بطاقة دخول مكتبة عامة من صديق أبيض لكي يدخلها ويقرأ الكتب سرًّا رغم كل العوائق. وهكذا فهو لم يستسلم أمام هذه الحواجز، واستطاع أن يبني نفسه معرفيًّا، وأن يصبح أحد أهم الكتّاب السود بعدد من الكتب المهمة، منها: ابن البلد الأسود، وابن هذا الرجل، والمنبوذ، والقانون والولد.

هناك بالطبع عوامل أخرى لدخول السجن غير الابتعاد عن المكتبات؛ كضعف التربية، والبيئة السيئة أو غير المستقرة بسبب الحروب والاضطرابات مثلًا، لكن قلة القراءة يمكن أن تقود إلى ضعف المهارات الاجتماعية، وهو ما قد يؤدي إلى البطالة فالجريمةِ والسجن. ومن يجد له في المكتبة ملاذا آمنا فمن المستبعد غالبا أن يتجه إلى عصابة أو مجموعة إجرامية.

لن تنهي المكتبات الجريمة، لكنها قد تساهم حين استغلالها أحسن استغلال وجعلها مكانًا جاذبًا، ونشر ثقافة القراءة، في تقليل أعداد مرتادي السجون، خاصة أن السجن أكثر كلفة من المكتبة ماديًّا ثم معنويًّا.

وأخيراً، نِعمَ ما قاله الكاتب الأرجنتيني المغرم بالقراءة بورخيس: أنشئ مكتبة ولو من ثلاثة كتب، وستقاوم جزءًا من قباحة هذا العالم الجاهل. فكل مكتبة هي صفعة في وجه العالم الجاهل.