روافد
يُطرح تصور عن مفهوم القيم والتوجيهات الدينية على أنها تُشرعن مبدأ الهيمنة وخضوع الإنسان لقوانين تسلبه التفكير المنطقي، فيسير خلفها اتباع الأعمى ودون إبراز أي مناقشة لها فضلا عن رفضها أو عدم المبالاة بها، وهذه الفكرة وهي تخدير العقول والنفوس تنطلق من رفض إغفال وجود العقل والقدرة على رسم أبعاد وخطوط الحياة بمختلف اتجاهاتها، وهذا المضمون فيه إغفال لمضامين الآيات القرآنية والروايات الشريفة والتي تخاطب العقول في أصل مبدأ التوحيد والإيمان، فالرسالات الإلهية جاءت لتوقظ الإنسان من غفلته الوجودية وتتّجه بكيانه نحو التأمل والتدبر في الكون وما فيه، والذي ينطق بوحدانية المعبود وحكمته وبديع صنعه في الآيات الآفاقية والأنفسية، كما أن القيم الأخلاقية تتوافق مع الفطرة السليمة والعقل الرشيد بالدعوة إلى كرامة الإنسان وطهارة نفسه من رذائل العيوب والنقائص، ولب العبادات الإلهية المفترَضة هي تهذيب النفس البشرية والسير بها في خط الورع عن محارم الله تعالى، فالصلاة - وهي عماد الدين - والصوم وبقية العبادات إذا ترسّخت مضامينها في النفس استقبحت الخطايا والمنكرات، وسارت في خط الاستقامة والتكامل ويقظة الضمير وتحمل المسئولية عن كل ما يصدر عنه من أقوال وأفعال، فالعبادة ترفد العقل بالوعي والنضج والحذر من الوقوع في الحفر الشيطانية، كما أن السلوك الإنساني يُعطى مجهر المحاسبة وتصحيح الأخطاء والتراجع عنها.
ولا يتصورنّ أحد أن القيم الدينية تدعو إلى الانسحاب عن ساحة العمل والفاعلية والمؤثرية، بما يجعل الإنسان مواظبا على طقوس دينية جامدة وقد انسحب من الحياة العملية والاجتماعية، بل تدعوه إلى أن يكون صانع موقف ومتحركا باتجاه العمل الجاد والمثابر والتخطيط المدروس وتحمل نتائج قراراته واختياراته، بل ويتجلّى منه الصمود والصبر في مواجهة صعوبات الحياة ومتاعبها والتكيف مع المشاكل والظروف القاهرة.
النظرة المنطقية والواقعية للحياة تضفي معنى وقيمة للأعمار والأداء الوظيفي والعملي، فالحياة بحسب النظرة الدينية هي دار اختبار وعمل مؤقت ينتقل بعدها الإنسان إلى المستقر الأخروي، فالآخرة هي امتداد طبيعي وحقيقي لاختياراتنا وقراراتنا وتصرفاتنا وكل ما يصدر منا؛ لنلاقي الحساب والجزاء عليه هناك تحت مظلة العدالة الإلهية ونشر صحائف الأعمال، هذه النظرة تحمل معانٍ جميلة وقيما سامية ترفد شخصية الإنسان بالتألق والسمو، حيث يعتمد في أعماله على مبدأ تحمل المسئولية وتحمل النتائج المترتبة على أفعاله، مما يدعوه إلى الانسياق في طريق الخير والصلاح وتجنب ما يُلحق به الخسارة والمذمّة، كما أن ساعات عمره يعتبرها رأس ماله الذي لا يفرّط فيه ويحوله إلى محطات من العمل المثابر والإنجاز، كما أن الحرية المتاحة له في السير في طريق الخير أو الشر تعني امتحانا إلهيا لما يحمله من فكر وسلوك، وهكذا تتطلّع نفسه إلى الغايات المنشودة الكبرى وعينه ترقب مرضاة الله تعالى، بما يعطي لحياته قيمة ومعنى وهدفا يعمل على تحقيقه على أرض الواقع، فالخطر الأعمق يكمن في أن يعيش الإنسان بلا غاية وبلا إدراك لمعنى وجوده، فعندما ينطفئ الوعي بالرسالة الإلهية له يفقد الإنسان قدرته على التمييز، ويغدو وجوده مجرّد حركة آلية داخل واقع لا يصنعه ولا يختاره.













