Don’t Put…
عنوان المقال هو جزءٌ من مثلٍ إنجليزيٍّ شهير:
Don’t Put All Your Eggs in One Basket [1]

ويعني عدم الاعتماد على خيار واحد، وعدم المجازفة بكل ما يملك الإنسان في اتجاهٍ واحد وقد استخدمتُه مختصرًا، على سبيل الفذلكة اللطيفة، لجذب انتباه القارئ العزيز إلى قراءة هذا المقال المتواضع.
ويُضرَب هذا المثل عادةً في سياق التجارة وتنويع مصادر الدخل، للتنبيه إلى خطورة الاعتماد على مورد واحد، بحيث إذا تعثّر تعذّر التعويض وبالمناسبة، فإن هذا المثل ليس غريبًا عن ثقافتنا، بل يمكن القول إن له جذورًا قرآنية واضحة، وذلك في قوله تعالى ﴿وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ﴾ . [2]
وقد ورد في تفسير الآية أن النبي يعقوب
خشي على أبنائه من العين، لما كانوا عليه من جمال الهيئة وحسن المنظر، فخاف أن يلفت اجتماعهم الأنظار. [3]
غير أن دلالة هذا المثل لا تقف عند حدود الاقتصاد والتجارة، بل هي سيّالة المعنى، تمتد بانزياحها - إن صح التعبير - إلى ميدان المعرفة والفكر فامتلاك خلفية دينية أو فكرية راسخة لا يعني الانغلاق على مصدر واحد للمعرفة، ولا يبرّر إقصاء بقية منابع الفهم بل إن الاطلاع على الثقافات والتجارب المختلفة يثري الوعي، ويعمّق الإدراك، ويمنح العقل قدرةً أكبر على التمييز ولعلّ في هذا السياق ما يلفت النظر إلى إمكانية تأصيل مثلٍ إنجليزي تأصيلًا قرآنيًا راسخًا، دون تناقض أو افتعال.
بل إن تراث أهل البيت
يذهب إلى أبعد من ذلك، إذ لا يكتفي بالدعوة إلى التعددية المعرفية، بل يجعلها جزءًا من منهج الوعي والنجاة فلم يحصروا الحكمة في بابٍ واحد، ولا جعلوا الحقيقة حكرًا على جهة بعينها فقد ورد عن أمير المؤمنين علي
قوله «انظر إلى ما قال، ولا تنظر إلى من قال» [4] ، وهي دعوة صريحة إلى تحرّي الحق في ذاته، لا في هوية قائله، وتأسيس لثقافة عقلية لا تُقصي المختلف ولا تنغلق على الذات.
وفي السياق نفسه، يُروى عن الإمام علي
قوله «الحكمة ضالّة المؤمن، فخذوا الحكمة ولو من أهل النفاق» [5] ، وهو نص بالغ الدلالة، يفتح باب المعرفة على مصراعيه، ويجعل الحكمة قيمةً مطلقة تُقاس بصدقها ونفعها، لا بانتماء من يحملها ولم يقف تراثهم عند هذا الحد، بل عمّق الإمام السجاد
هذا المعنى بقوله «لا تحقر اللؤلؤة النفيسة أن تجتلبها من الكُبَا الخسيسة» [6] ، في تصوير بليغ يجعل قيمة المعرفة كقيمة اللؤلؤة تُلتقط حيثما وُجدت، مهما كان موضعها واطئًا، ما دامت نفيسة في ذاتها.
واختم بما رُوي عن أمير المؤمنين
قوله «قيمة كل امرئ ما يُحسن» [7] ، وفيه إشارة واضحة إلى أن معيار التفاضل هو الإتقان والمعرفة والعمل، لا الخلفية ولا الهوية، مما يعزّز فكرة الانفتاح على كل بابٍ يزيد الإنسان فهمًا ورشدًا.
وهكذا يتبيّن أن الانغلاق المعرفي لا يحمي العقل بقدر ما يقيّده، وأن حصر الحقيقة في بابٍ واحد يعرّض الفهم للقصور مهما بدا مطمئنًا فالقرآن دعانا إلى تفرّق الأبواب لا إلى تشتّت المقاصد، وأرشدنا أهل البيت
إلى أن الحكمة تُؤخذ لذاتها لا لهوية قائلها ومن هنا، فإن العقل الواعي هو الذي يُحسن التمييز لا الإقصاء، ويجمع بين الثبات على المبدأ والانفتاح على المعرفة، فلا يضع فهمه في سلّة معرفية واحدة، ولا يغلق أبوابه دون ما يزيده رشدًا وقربًا من الحق.













