فنّ التواصل كما علّمني أبي
ما برنامجُنا هذه الليلة؟
سؤالٌ أطرحه دائمًا بروحٍ مرِحة، أردّده بيني وبين إخوتي على مسامع والدي في ليالي الجمعة، كأنّي أختبر خريطة الوقت قبل أن تبدأ الرحلة.
فيبتسم الوالد، ويجيب بثقة من يعرف الطرق والوجوه والقلوب:
— البرنامج الليلة: فاتحة في الخويلدية، ثم الحلة، ونعود لزواج في الشويكة، ثم زواج آخر في حسينية السنان، ونختم بزيارة بيت خالك أبو حسين.
أرفع حاجبيّ مازحًا، وأقول:
— وهل يمكن أن ننهي كل هذا في ساعة… أو ساعة ونصف؟
فيجيبني بابتسامة الواثق:
— نعم، يمكن ذلك… إذا لم نُضِع الوقت في شايٍ، أو قهوة، أو أحاديث جانبية.
وهكذا نمضي مع الوالد، ملتزمين بالبرنامج الذي رسمه بعناية.
والعجيب أن الزمن يطاوعنا كثيرًا، فنُنهي جولتنا في وقتٍ قياسي، كأن البركة ترافق الخطى حين تكون النيّة صادقة.
وعندما يتزوّج أحد إخوتي، يُعلن الوالد موقفه الحاسم؛ فالدعوة عنده لا تُختصر برسالة، بل تبدأ باتصالٍ صادق، أو زيارةٍ خاطفة تحمل الودّ قبل الكلمات.
يُصرّ أن نذهب معه، نوزّع البطاقات على الأصدقاء والمعارف في القطيف، وسيهات، وصفوى.
يجلس كل ليلة، يرتّب الأسماء كمن يرتّب خريطة ودّ:
— هذه لعائلة فلان في أمّ الحمام…
ثم نذهب للجش، لعائلة فلان…
ونُنهي الرحلة في سيهات، عند عائلة فلان.
وفي ليلة الزواج، يمتلئ المكان بالوجوه المألوفة، بالتحايا، بالذكريات.
يلتفت إلينا الوالد مبتسمًا، ويقول بنبرة المنتصر الهادئ:
— ألم أقل لكم؟ لازم نعزم صح… شوفوا كيف صار العرس.
أضحك مع إخوتي، وأقول:
— لكن العملية ليست سهلة يا أبي!
والحقّ أني لا أُبالغ حين أقول:
أبي رجلُ تواصلٍ اجتماعي من الدرجة الأولى.
هي عادةٌ تجذّرت في نفسه، حتى صار التواصل الحقيقي ديدنه، لا يعرف القطيعة، ولا يؤمن بالغياب الطويل.
وهكذا يُعلّمنا — دون محاضرة — أن التواصل فنّ، وأن صلة الرحم خُلُقٌ قبل أن تكون واجبًا، وأن لا تقطع أرحامك مهما قطعوك، مستحضرًا دائمًا وصيّة السماء:
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ﴾ ،
وأن تغتنم الفرصة وتطرق باب صديقٍ قديم، فربّ زيارةٍ صادقة تُحيي قلبًا، وتُعيد عمرًا من الودّ.
ومن هذا الدرس الصامت، بدأتُ أفهم أن التواصل لا يُترك للصدف، بل يُصنع بالنيّة والخطوة:
فأن تخصّص وقتًا ثابتًا في الأسبوع — ولو ساعة — للزيارات، هو أول الوفاء.
وأن لا تنتظر مناسبة كبيرة لتصل، لأن الزيارة دون سبب تصنع أجمل الأسباب.
وأن تقدّم الدعوة وجهًا لوجه متى ما استطعت، فالكلمة حين تُقال بعينٍ وابتسامة، تصل أصدق وأبقى.
وأن تأخذ أبناءك معك في الزيارات، ليتعلّموا بالفعل لا بالكلام، ويكبر فيهم معنى الصلة لا مجرّد اسمها.
وأن تختصر الوقت ولا تختصر الودّ، فزيارة خفيفة متكرّرة خير من غيابٍ طويل.
وأن تبدأ بالأقرب فالأقرب، وتجدّد العهد مع صديقٍ قديم، فقد يكون بانتظار خطوة منك.
وأخيرًا، أدركتُ أن ما عشناه في بيتنا لم يكن مجرّد تجربة شخصية، بل هو امتدادٌ لوصيةٍ أصيلةٍ أرساها الإمام الصادق
، حين دعا إلى إحياء روح التواصل بين الناس بزيارة المرضى، ومواساة الفقراء، وحضور الجنائز، والتلاقي في البيوت على الودّ والمعرفة، معتبرًا ذلك حياةً لأمر الدين وبناءً متينًا للمجتمع.
”أبلغ موالينا السلام، وأوصهم بتقوى الله والعمل الصالح، وأن يعود صحيحهم مريضهم، وليعد غنيهم على فقيرهم، وأن يشهدوا جنازة ميتهم، وأن يتلاقوا في بيوتهم…“ ”1“.













