آخر تحديث: 18 / 12 / 2025م - 9:46 ص

هندسة العقول قبل عمران المدن

عيسى العيد * صحيفة اليوم

إنَّ من يقيس المجتمع بما يملك من مبانٍ شاهقة وأحياءٍ واسعة، إنما هو ضيّقُ الأفق والتفكير، فالمجتمعات الواعية تُقاس بما تملكه من ثقافةٍ تُبرزها فيما يُكتب ويُلقى بين جماهير الناس.

إنَّ من أهم الوسائل التي تُرسَل لتعطي السُّمعة الواعية عن مجتمعٍ ما هي وسيلةُ الكتابة والخطابة المنبرية؛ حيث إنها تكون ذات مضامين معرفيّة تُرسَل من خلال الخطيب أو الكاتب، وهي أجلى صور مظاهر المجتمعات. فإذا كانت تلك الكتابات والخطب واعيةً تُواكب التطوّرات العلمية والثقافية، فإنها تُنبئ عن مجتمعٍ واعٍ يحمل ثقافةً ناضجة من خلال ما يُكتب وما يُلقى من أعلى المنابر.

قد تكون الشهادات العلمية ذاتَ دورٍ فعّالٍ في المستوى العلمي للمجتمع، وفي دور العلم والجامعات، لكنها تبقى محدودةً على مستوى النخب العلمية. ولكن إذا لم يكن حاملُ الشهادة ذا دورٍ فعّالٍ من خلال الكتابة وبثّ المعارف بين الناس، فسوف يتنكّر له من ليس له به صلة. وعلى العكس من ذلك، عندما يتحدّث ويكتب، يكون دوره أجلى وأكبر وعلى مستوى عالٍ من الناس.

في مجتمعاتنا لا يزال الخطاب متدنيًا ويدور في فلك التاريخ والخلافات والشحن بين التوجهات المختلفة، ولا يرقى إلى أن يكون ذا مضامين علمية. ومع الإقرار بوجود جهود فردية ومنابر واعية استطاعت المواءمة بين الوعظ ومتطلبات العصر، نعم، قد يكون خطيب الجمعة مذكِّرًا بالتعاليم الإسلامية وحاثًّا الناس على تقوى الله، وهذا أمرٌ جيّد، لكن هناك طُرقًا أخرى ليتعلم الناس من خلالها شؤون حياتهم، ويُحثّوا على الانفتاح على الآخرين ونيل العلم عبر الطرق المختلفة، حتى يُرفع مستوى عقول الناس في شتّى معارفهم. كما ينبغي حثّهم على الدخول في معترك التجارب، فإنما المؤمن القويّ خيرٌ من المؤمن الضعيف، وهذه كلها يُحثّ عليها الدين الإسلامي، وهي من أصدق مضامينه.

البعض اختصَّ المنبر فقط بالحالة الدينية، مع أنه أشمل من ذلك وأوسع. ولو أنه تجاوز هذه الحالة لانفتحت له الأبواب وهنا يأتي دور وجود المنتديات الثقافية المتخصصة التي تتيح الفرصة لأصحاب التخصصات المتنوعة لكي يتحدثوا بما لديهم من معارف ويطرحوا أفكارهم على عامة الناس.

في النهاية، إن وجود مجتمعٍ واعٍ يُقاس بما ينتجه من ثقافةٍ تشيِّد العقول، وتغرس في أفراده حبَّ العلوم على اختلاف أنواعها. ولن ينهض أي مجتمع ما لم ينهض أهلُ العلم بدورهم الفاعل، من خلال ما يطرحونه من خطابٍ رصين أو كتابةٍ نافعة تُسهم في رفع الوعي العام.