آخر تحديث: 17 / 12 / 2025م - 12:29 ص

حين يبدو النور كثقب.. من سلسلة امتدادات الغائب

عبير ناصر السماعيل *

المشهد الأول: دبيب الحياة في الجسد الصامت

”الله أكبر... الله أكبر.“ في الهزيع الأخير من الليل، ينساب الصوت من مئذنة المسجد القريب، يتهادى الصدى عبر الهواء البارد ليطرق جدران ذلك المبنى الضخم الساكن. يستيقظ ”الهيكل“ على هذا النداء، لكنه يظل صامتاً في خشوع، وكأنه يمنح الكون مساحته ليقيم صلاته أولاً.

تمضي ساعة من السكينة.. وحين تفرغ المدينة من سجودها، وتبدأ خيوط الشمس الأولى بلمس الأفق، تبدأ طقوس الحياة المادية بالتشكل ببطء. في البداية، صوت وحيد يكسر الصمت.. طر.. طر.. طر.. وقع خطوات ثقيلة ومنتظمة لحراس الأمن وهم يتفقدون المداخل. يفتحون الأقفال الحديدية الضخمة، وتُسمع صرير البوابات وهي تنزاح، ممهدة الممرات، تمامًا كما يستيقظ الجهاز العصبي في جسد الإنسان، ليعطي الإشارة الأولى بأن النظام جاهز للعمل.

ثم.. يتدفق ”العمال“ إلى الداخل. وجوه، أصوات، همهمات، وضجيج بشري يملأ الفراغ البارد بدفء الأنفاس. وفجأة.. تدور التروس. صوت هدير المحركات يتصاعد، السيور الناقلة تبدأ بالزحف، المكابس تضرب بإيقاع منتظم، وخطوط الإنتاج تنطلق في رقصتها الميكانيكية اليومية.

وهنا، وسط ذروة الضجيج والحركة، اهتزّت الجدران بنبضٍ لم تألفه من قبل. وتساءل الهيكل الحديدي في دهشة صامتة: هل هذا الدفء الذي يسري في عروقي الباردة… هل هذا هو إحساس الروح؟

الركيزة الأولى: الروح لا تضيع..

مشهد الصمت العظيم ”الله أكبر... الله أكبر.“ عاد الصوت ذاته. من نفس المئذنة، وفي ذات التوقيت المقدس من الهزيع الأخير، انساب النداء ليطرق الجدران بحثاً عن إجابة، بحثاً عن تلك الحركة المعتادة التي كانت تملأ المكان ضجيجاً وحياة. لكن هذه المرة... لا شيء سوى صدى يرتطم بجدران صماء.

الساعة تمر، ولا يُسمع صوت خطوات الحراس المعهود. تشرق الشمس، ولا تُفتح البوابة الحديدية. يحل الصباح، ولا يدور أي ترس. النداء يصدح في الخارج، والنور يغمر الأفق، لكن ”الهيكل“ جاثم في صمته المطبق، بارد وموحش، وكأنه لم يكن يوماً خلية تنبض بالحياة.

تشخيص العطل: هل ماتت الطاقة؟ في غمرة هذا الصمت الثقيل، يتحسس ”الهيكل“ صدره الخرساني الموحش. إنه لا يشعر بالفراغ فحسب، بل يشعر بـ ”ثقب أسود“ انفتح في منتصفه تماماً، يكبر ببطء ويبتلع كل صدى للحياة كان يضج فيه بالأمس. تحت وطأة هذا الوجع الذي يلتهم المكان، يتساءل المبنى برعب من أعماقه المظلمة: ”أين أنتِ يا روحي؟ وهل تلاشيتِ للأبد؟“.

لكن، حتى في أقصى درجات اليأس، تهمس حقائق الكون بغير ذلك. فالفيزياء الصارمة تخبرنا - عبر قانون ”الديناميكا الحرارية“ - أن الطاقة في هذا الكون لا تفنى ولا تُستحدث من العدم، بل تتحول وتتغير. هذه الحقيقة الكونية هي التي جعلت الوعي العلمي الحديث، عبر أصوات مثل ”روبرت لانزا“، يقف حائراً أمام خلود الطاقة، مؤكداً أن الوعي لا يتبخر بمجرد تعطل الجسد. وهي ذاتها الحقيقة التي أدركها ”ابن سينا“ قبل ألف عام في تأملاته، حين أيقن أن الإنسان يدرك ”ذاته“ كجوهر مفارق، يحل في الجسد ولا يموت بموته.

ولكن، إذا كانت روحي لا تفنى… فلماذا أشعر بهذا الخواء؟ وكيف غابت عني وأنا ما زلت واقفًا هنا؟

الركيزة الثانية: وهم ألم الروح «Soul Pain Illusion»

كان يوماً شديد البرودة، والرياح تصفر بوحشة بين الأعمدة الصامتة، تزيد من قشعريرة الفقد في جسد ”الهيكل“. وفجأة.. وسط هذا الصقيع، امتدت أصابع دافئة لتلمس سطح الجدار المتجمد بحذر، ثم اتكأت يدٌ كاملة بثبات وقوة عليه.

لم تكن لمسة عابرة، بل كانت ”وصلة حياة“. في تلك اللحظة الساكنة، انتقلت دقات قلب منتظمة من تلك اليد، وسرت عبر الحديد البارد، لتصل مباشرة إلى مركز ذلك ”الثقب الأسود“ الذي كان يبتلع صدر المبنى. مع كل دقة، كان الدفء ينتشر، والوهم يتبدد.

ولكن، أمام مشهد عودة الدفء هذا، رنّ صدى في مركز التحكّم داخل المبنى.

صدى لم يكن صوتًا، بل سؤالًا ارتطم بالجدران من الداخل:

إذا كانت الروح - تلك اليد الدافئة - قريبة إلى هذا الحد، وتنتظر خلف الجدار فقط… فلماذا شعرتُ أنها تلاشت للأبد؟

لماذا أقسمتُ، وأنا أرتجف، أن داخلي قد مات، وأن العمال الذين كانوا يملأونني حياة قد فَنوا؟

ولماذا يُسمّي علم النفس هذا الإحساس ”وهم ألم الروح“؟

لم يكن هذا الوهم عبثيًا.

فالعلم، حين اقترب من الألم، لم يجده مفهومًا غامضًا كما نظن. بل كشف عن حقيقة مقلقة ومدعومة بالأبحاث: لا يملك النظام العصبي مركزًا منفصلًا يميّز فيه بين وجعٍ يصيب البنية ووجعٍ يصيب المعنى.

في دراسات ناعومي أيزنبرجر وماثيو ليبرمان، تبيّن أن الدماغ، عند التعرّض للفقد أو التهميش، يُنشّط المنطقة نفسها التي يُنشّطها الألم الناتج عن الكسر أو التلف المادي، وتحديدًا في القشرة الحزامية الأمامية. كأن، عند درجةٍ محددةٍ من الوجع، مهما اختلف سببه، يُقرأ داخل المنظومة قراءة واحدة.

وهنا، أمام هذه المساواة البيولوجية القاسية بين تهشّم المعنى وتهشّم البنية، يبرز السؤال من داخل الهيكل نفسه:

هل تملك هذه المنظومة، في ذروة الخلل، القدرة على التمييز بين مصدر الوجع؟

أم أن الصراخ واحد، سواء كان في الجدار… أو في العمق؟

وحين يبلغ الإحساس هذا الحد من الشدة، وتعجز اللغة عن مضاهاة فداحة ما يحدث، لا يبقى سوى استعارة الكلمة الوحيدة التي توازي قداسة الكارثة. فأصرخ: روحي تتألم.

لا أدري… هل ما حدث لي كان موتًا لروحي فعلًا؟

أم أن حواسي المتألمة خدعتني، فظننتُ أن صراخ الجدران دليل غياب، بينما كانت اليد تسندني طوال الوقت؟

لا لأن الروح قد فُقدت، بل لأن الألم كان أوسع من قدرة الإدراك على تسميته.

أم أن للألم قوةً، إذا تجاوزت احتمال الجسد والإدراك، امتدّت حتى الروح…

فصرخت؟

الركيزة الثالثة: التيه ليس سقوطاً..

قدمٌ صغيرة حافية، غضة وطرية، تركض بمرح عفوي فوق تلك الأرض المستوية الممتدة. وفجأة، وسط خطوات اللعب، تتعثر تلك القدم بشيء صلب مدفون تحت التراب. تتوقف الحركة، وتتأمل العيون الصغيرة ما أوقف مرحها: إنه ترسٌ معدني صدئ، وبقايا عمود إسمنتي متهالك، وشظايا من جدار قديم كان يقف هنا يوماً بشموخ.

أشرقت الشمس فوق ذلك الرأس الصغير، لتستقر عليه الآن ”خوذة سلامة صفراء“. وفي تلك اليد الغضة، لم تعد هناك ألعاب، بل قُبضت أصابعها بقوة على لفة أوراق كبيرة؛ مخططات هندسية لمشروع جديد.

عندها أدرك ”المصنع“ الحقيقة. عرف أن الجدران التي كانت تحتضن صخب التروس والآلات بالأمس، قد رحلت.. ليحل محلها الآن أمل المستقبل.

خاتمة الخاتمة

وهكذا، بين أنقاض الجدران القديمة، والمخططات التي تتطلع إلى ما لم يُبنَ بعد، لم يعد ”المصنع“ يسأل عن سبب صمته، بل عن معنى ما ينتظره.

تتساءل الجدران - وهي تُحدّق في المستقبل:

إذا كانت الروح - كطاقة - لا تفنى ولا تضيع، وكان ما نشعر به أحيانًا ليس إلا خدعة الحواس. حين ينهار الجسد ويضطرب الإدراك… فمتى، إذن، نفقد الروح حقًا؟ هل يُفقد النور حين يخبو الشعور به؟

أم أن الروح لا تفارق الجسد إلا في لحظة واحدة فقط… تلك التي يبدأ عندها

السؤال الأعمق؟

كاتبة ومستشارة استراتيجية، تؤمن أن الوعي هو أول خطوة في بناء أي كيان ناجح، وأن ما لا يُفهم في الذات، لا يُصلح في المؤسسة