الفُحش في المُجاملة الاجتماعية
من حسن الكلام أن يتبادل الناس المجاملة فيما بينهم، خصوصا بين الأصدقاء، فالعاقل بطبعه يمقت الإساءة والتجريح وبذاءة اللسان. والمجاملة في أصلها سلوك اجتماعي محمود، يعكس الذوق، ويعزز الألفة، متى ما بقيت في حدودها الطبيعية.
غير أن المشكلة تبدأ حين تتجاوز المجاملة هذا الحد، فتكون على حساب الواقع والحقيقة، وحينها تنقلب من لباقة مقبولة إلى تملق، أو تزلف، وربما نفاق. عندها لا تعود المجاملة فعلاً لطيفاً، إنما تصرفاً يثير الاشمئزاز، مهما كان موقع الشخص الممدوح، سواء كان ذلك الموقع حقيقيا أم متوهما، فكيف إذا كان الوصف أصلا غير دقيق؟
وهنا يصبح السؤال: متى تكون المجاملة ذوقاً، ومتى تتحول إلى فُحش يضلل الحقيقة ويشوّه القيم؟
قبل كل شيء، لا بد من معرفة أطراف هذا السلوك؛ فهناك قائل، ومستمع أو قارئ، وأخيرا الشخص الممدوح. غير أن تسليط الضوء يجب أن يبدأ بالقائل، لأن أصل الفعل ينبع منه، ولأن هذه المجاملة في الغالب لا تصدر بدافع الذوق وحده، بل تحرّكها أحيانا دوافع خفية، كالرغبة في القبول، أو الخوف من الرفض، أو البحث عن مصلحة، أو مجاراة سائدة اعتادها الناس دون تفكير. ولأن الفعل لا يُقاس بنيّة صاحبه وحدها، إنما بما يتركه من أثر في النفس والمشهد العام.
فالمجاملة المفرطة، وإن خرجت بعبارات لطيفة، لا تمر مرور الكلام العابر، بل تترك بصمتها في طريقة الفهم، وفي تشكيل الصورة، وفي إعادة ترتيب القيم دون أن نشعر. وحين يُغدق المديح في غير موضعه، ويُرفع الأشخاص فوق أحجامهم الحقيقية، لا يكون الضرر مقتصرا على السامع فقط، إنما يمتد إلى المحيط كله، حيث تختلط المعايير، ويصعب التمييز بين الاستحقاق والتصفيق، وبين الإنجاز الحقيقي والضجيج المصنوع.
ومع مرور الوقت، تتحول هذه المجاملات إلى أفعال مؤثرة، تكرّس الوهم، وتضعف قيمة النقد الصادق، وتمنح الخطأ حصانة اجتماعية، فيدفع المجتمع ثمن كلمة لم تُقل في وقتها، ونصيحة غابت بدافع اللطف الزائد.
يتقبّل الناس، بل والمجتمع عموما، إظهار الإعجاب أو المديح حين يكون موجها لأب أو أم، أو لأخ، أو لزوج أو زوجة، سواء كان هذا الإعجاب حقيقيا أو فيه قدر من العاطفة، فذلك أقرب إلى الفطرة، وغالبا ما يُفهم في سياقه الإنساني الطبيعي.
غير أن الأمر يختلف حين ينتقل هذا المديح إلى شخصيات عامة، أو أكاديمية، أو رياضية، أو اجتماعية، أو إلى جماعات بعينها، ويُقدّم بصورة مطلقة ومبالغ فيها، دون معيار واضح أو نقد متزن. هنا لا يعود المديح تعبيرا عاطفيا بريئا، بل يتحول إلى تضخيم غير مبرر، يصنع هالات وهمية، ويمنح المكانة قبل الاستحقاق.
يبدأ أثر هذا الفُحش في المجاملات بالقائل نفسه، إذ ينمّي فيه الإفراط في هذا السلوك مع الوقت، حتى يعتقد أنه يمارس مجاملات حقيقية وفي محلها، بينما الواقع غير ذلك تماما. فينجرف إلى منحدر لم يكن ملتفتا إليه، ويعتاد المديح المبالغ فيه بوصفه أسلوبا طبيعيا في الحديث والتقييم.
وقد يعود هذا الانجراف إلى غياب من ينصحه، أو إلى التشجيع السطحي الذي يتلقاه، سواء عبر الإعجابات، أو عبارات المجاملة السريعة من قبيل: ”صح لسانك يا يبه“، فيتوهم الصواب، وتغيب عنه الحاجة إلى المراجعة، ليصبح أسيرا للتصفيق أكثر من بحثه عن الحقيقة.
فماذا سيفعل صاحب هذه المجاملة الفاضحة حين يتضح له يوما أن من بالغ في مدحه لم يكن بتلك الصورة التي رسمها؟ سؤال نترك إجابته للواعين.
ويمتد أثر الفُحش إلى الممدوح نفسه، حيث قد يتلقى هذا الإطراء المبالغ فيه بوصفه حقيقة ثابتة، لا رأيا عابرا. ومع تكرار المديح، يبدأ الشعور الزائف بالاكتمال، فتتراجع مساحة المراجعة الذاتية، ويضعف الاستعداد لسماع النقد أو تقبل الملاحظة.
ومع الوقت، قد تتحول هذه المجاملات إلى مرآة مشوهة يرى فيها الممدوح نفسه أكبر من واقعه، فيتوقف التطور عنده، أو يسلك مسارا لا يوازي ما نُسب إليه من صفات وقدرات. والأسوأ من ذلك أن بعضهم قد يربط قيمته بما يسمعه من ثناء، لا بما يقدمه فعلاً، فيصبح أسيرا لصورة صنعها الآخرون له، لا لمساره الحقيقي.
وهنا يكتمل أثر الفعل بين قائل أغراه التصفيق، وممدوح صدّق الوهم، ليبقى المجتمع هو الخاسر الأكبر. وأحيانا يظل خائفا من انكشاف المستور، فيتجنب المواجهة، ويبتعد عن النقد، ويحرص على البقاء داخل دائرة الثناء التي اعتادها، ولو كان ذلك على حساب تطوره الحقيقي.
وحين تتسع دائرة المجاملة المفرطة، ينعكس أثرها على المجتمع بأكمله. فمع تكرار هذا السلوك، تتشوّه المعايير، ويعلو التصفيق على الاستحقاق، فتختلط القيم، وتضيع الحقيقة مع كثرة المجاملة الفاحشة.
وفي هذا المناخ، لا يتراجع الصدق بوصفه قيمة فحسب، إنما يُطمس حضور أناس كانوا الأحق بالثناء، لا لقصور في عطائهم، بل لخجلهم المتواضع، فيُكافأ الصمت، ويُهمَّش العمل، ويُقدَّم الكلام على الفعل، ليدفع المجتمع ثمنا باهظا لسلوك ظُنّ أنه لطف، وهو في حقيقته إضرار جماعي مؤجل.













