آخر تحديث: 15 / 12 / 2025م - 6:37 م

حجر زاوية

ورد عن الإمام الباقر : «قيل للقمان: ما الذي أجمعت عليه من حكمتك؟

قال: لا أتكلّف ما قد كُفيته، ولا أضيع ما وليته» [قرب الإسناد ص 72 ].

طريقة التفكير وأسلوب الحديث والحدود اللائقة للتصرفات مبادئ تقوم عليها صياغة الشخصية المتزنة، بما يجمع بين ضبط الحدود الأخلاقية والفاعلية العملية في حياة الإنسان، حيث المسار الأصوب والأمثل لمسير التكامل واكتساب الصفات الحميدة هو حياة ضبط النفس والانفعال، وهذا ما يشير له مفهوم الحكمة الذي اشتُهر به لقمان ويصوغها هنا بنحو مختصر يحمل الدلالات والمضامين، فالأمر الأول هو حدود التكليف والواجبات الملقاة على عاتق المسئولية تجنبا لحياة التخبّط والضياع والاختيارات غير المناسبة لقدراته وإمكانياته، والأمر الثاني هو أمانة التكليف الموجه حيث يقوم به خير قيام دون توانٍ أو تكاسل، فالإتقان والإنجاز عنوان هوية الإنسان ومعيار تقييم عطائه وفاعليته الفردية والمجتمعية، والأمر الثالث هو الوسط العملي وأرضية التطبيق فيتمازج ويتلاءم الجانب النظري والفكري مع الفعل الميداني، حيث يقع البعض في خطأ فادح وهو الإغراق في أحلام اليقظة والأفكار المثالية ولكن لا تجد منها شيئا في ميدان العمل.

الحكمة اللقمانية تحتوي على شطرين متكافئين: الأول هو «لا أتكلف ما قد كفَّيته» تشير إلى الحد الطبيعي الواجب المتناسب مع القدرات والإمكانيات بما يساند الإنجازية على أتم الوجوه وأفضلها، إذ هناك من يغرق في بحر المسئوليات من خلال استنزاف قدراته وبعثرتها بين مجموعة من الواجبات تفوق مستوى قدرته، وكلمة «تكلف» هنا تحمل معنى الاجتهاد المرهق ومحاولة الزيادة في الأداء عن المستوى الطبيعي للواجب المتناسب مع طاقاته.

«و لا أضيع ما وليتُه» - أي: ولا أهمل أو أُهدر ما وُضع في عهدتي، سواء كان مالا أم وظيفة أم عهدة اختصاصية أو عقدا أخلاقيا، فكلمة «وليته» تشير إلى الولاية بمعناها الواسع: ما وُكِّل إليَّ من حقوق وواجبات والإتقان في أدائه.

الحكمة تجسّد مبدأ الواقعية والفاعلية عن بصيرة ووعي واستعداد، فهناك الامتناع عن التكلّف بما يفوق القدرات والاستعدادات بما ينبئ مسبقا عن الأداء المترهّل والإخفاق، كما أن التكلّف يولّد حالة من الإرهاق واستنزاف القدرات مع عقم في النتائج ويأتي بمردود الخيبة، والحكمة تدعونا إلى النظر الرشيد للواجبات والاستحقاقات المعرفية والاجتماعية والمالية بما يتناسب مع قدراتنا دون تكلّف.

والشطر الآخر من الحكمة هو مبدأ الحفاظ على ما وُكّل إليك من مهام بما يضمن الاستمرارية في العمل حيث يقوم بجزء معين منه، فهذان القطبان يُنتجان قاعدة عملية: كفّ يدك عمّا ليس لك، واحفظ ما في عهدتك.

مضمون الحكمة يقدم دستورا عمليا للتوازن بين النزعة إلى المثالية المرهقة والنزعة إلى الإهمال المُدمّر، فروح العمل المثابر والجدية فيه لا يعني مطلقا الانخراط الأعمى في أي عمل دون دراسة مستوفية ونظر متقن لقدراته، فالحكمة تحمل في مضمونها دعوة إلى الاعتراف بالحدود البشرية ومبدأ الفروق الفردية، والذي يساعدنا كثيرا على نطاق الأسرة والمدرسة في التعامل مع كل فرد على أنه يختلف عن إخوانه وأقرانه، ويجنبنا أسلوب الإملاء عليه ووضع السقوف العالية لما يُتوقّع من مخرجات معرفية أو سلوكية منه، والشطر الآخر هو الالتزام بأي تكليف كأمانة ملقاة في عهدتنا يجب الحفاظ عليها، ويبقى هذا التوازن حجر زاوية للأخلاق الفردية والاجتماعية ومسطرة للعمل الصالح والفعال.