آخر تحديث: 15 / 12 / 2025م - 6:37 م

مرديات الهوى

المهندس أمير الصالح *

"الهوا هواي
أبني لك قصر عالي
وأخطف نجم الليال
وأشغل لك عقد غالٍ
يضوي أحلى الصبا
أنا الهوى هواي هواي"

…كلمات أغنية غناها العندليب الراحل عبد الحليم حافظ، إلا أنه لم يُسأل كم هوىً وقع في غرامه، وما نوعه، وكيف نجا من كل ذلك بسلام!

لنا أن نستوعب كمجتمع محافظ أن هناك هوىً محمودًا وهوىً غير محمود العاقبة؛ الهوى المحمود يتواءم مع حفظ كرامة الإنسان واتزانه، ومراعاة مشاعره وعقله وماله وحريته وانتمائه لله. والهوى غير محمود العاقبة يستنزف مشاعر صاحبه، ويقتل كرامته على سفوح جبال الشهوات، ويخنق بقايا مروءته في أوحال الانغماس بالخيانة تارة وبالرذيلة تارة أخرى.

عدد قنوات نشر الرذيلة الرقمية تجاوز عدة ملايين من القنوات الرقمية، وعدد البرامج التلفزيونية ذات الأفكار المشبوهة تجاوز عشرات الآلاف، وعدد الأفلام الساقطة المُنتجة سنويًا حول العالم تجاوز «…» مليونًا سنويًا بمعدل مروع في اليوم الواحد، وعدد المغرِّدين بالمقاطع الساقطة الفاجرة لامس أرقامًا فضائية، فضلًا عن رسائل الإيحاءات والإيماءات الشهوانية المبتذلة.

كل ذلك بسبب عَبَدة المال والشياطين ممن يحصدون ما يربو على 97 مليار دولار سنويًا في دولة عالمية واحدة «The global pornography industry is estimated to generate between $15 billion and $97 billion annually»، في صناعة تجاوز مردودها المالي حسب بعض التقديرات تريليونًا من الدولارات في دولة واحدة. كل ذلك التسونامي من الرذيلة موجه في الأغلب نحو الشباب/الفتيات «18 - 24» بطرق مختلفة وأساليب ملتوية وتحت مسميات جذابة متنوعة [1] .

لا بل استخدم الخُبثاء تطبيقات الذكاء الاصطناعي في العالم الرقمي والفضاء السيبراني والتسويق التجاري ومزارع الجوالات للمراوغة والسيطرة وإسقاط أكبر عدد من الضحايا في شبكات التشرذم والمجون والخلاعة والرذيلة وغسيل الدماغ وخَسف الفطرة وطمس الغيرة المحمودة عبر اللقطات الماجنة بسيناريوهات مشوقة. فالنجاة من كل تلكم ”الترندات“ والأفلام واللقطات «Reels» والقنوات تحتاج إلى جهود متضافرة من كل أبناء المجتمع الأوفياء، وتبدأ بالنفس وبالتربية وتزكية النفس ومراقبة الذات، ومرورًا باحتضان البيئة الاجتماعية لأفرادها وحسن الوعي وتحبيب آداب الحوار والزهد عن المنكر ودفع الشبهات والابتعاد عن أهل الفسوق ومصاحبة الأخيار.

آخر الإحصائيات تشير إلى أن:

1 - أول تعرض لمشاهد إباحية يتم دون تعمد وعبر مقاطع مدسوسة للأطفال ما بين 6 - 12 سنة، سواء عبر مسلسل كرتوني أو لقطات ضمن فيلم من المفترض أن يكون عائليًا.

2 - 73% من المراهقين يُستدرجون للعالم غير الأخلاقي، و 45% منهم يُضللون بغطاء مسميات ثقافة جنسية تعليمية.

3 - بعض الدراسات الأكاديمية تفيد بأن الإباحية سبب من أسباب فشل زيجات المتزوجين، وبنسبة 50%.

4 - منذ عام 2019، لعبت تقنية التزييف العميق «Deepfake» دورًا كبيرًا في صنع وترويج ونشر الرذيلة المصطنعة عبر تطبيقات وخوارزميات، منها تركيب صور أشخاص أسوياء وصلحاء في أوضاع مخلة بالعفة؛ فتنطلي الحيلة على الجهال وتنهدم صور القدوة وتتسع بقع الرذيلة.

5 - ضحايا تلكم الممارسات غير الأخلاقية التي نُشرت في الفضاء الرقمي في ازدياد، حسب تقارير رابطة علم النفس الأمريكية «American Psychological Association».

هناك أيضًا دور للذكاء الاصطناعي - لم يعد خفيًا على العقلاء - في استدراج الإنسان السوي بإثارة فضوله لمقطع عابر؛ وبعد أن تُشك سنارته بناءً على الرصد الآلي للفترة الزمنية المستهلكة لتصفح موقع ما، تبدأ تطبيقات الذكاء الخبيث في زيادة جرعات الإغراق تدريجيًا حد الثمالة والإدمان لذلك الإنسان.

شخصيًا أرفع القبعة:

• لكل أب وأم بذلا جهودهما في توجيه أبنائهما واحتوائهم وتحصينهم.

• لكل شاب وفتاة سعى ويسعى لتزكية نفسه وتجنيبها مواطن الرذيلة ومواقع الفسوق الرقمية وغير الرقمية.

• لكل مجتمع ومجموعة واقعية ورقمية تسعى لرفع منسوب الوعي والتقوى والصلاح والفلاح.

• لكل إمام ومعلم ومربٍ وخطيب ومرشد اجتماعي ووجيه أيقظ ضمير الأبناء وحفزهم على مراقبة ذواتهم وتقوى الله حيثما حلوا وارتحلوا، وزرع فيهم حب الخير وتجنب الفسق وأهله.

ختامًا:

أصدرت إحدى الدول الإسكندنافية قرارًا بمنع ولوج الشباب والفتيات دون 16 سنة لمواقع التواصل الاجتماعي، وحجبت الصين بعض التطبيقات للحفاظ على الجيل الصاعد من الفساد الأخلاقي والتلوث البصري. وسابقًا كانت بعض الدول تحجب مواقع في الإنترنت للحفاظ على الاستقرار النفسي والأخلاقي لأبناء المجتمع، والواقع أنني أشد على يد تلكم الإجراءات وأنادي بتفعيلها.

كما أنني أنصح بالمداومة على قراءة الاعتراف لله كما ورد في المقطع التالي من دعاء الصباح المنسوب لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، وكذلك مناجاة الشاكين للإمام زين العابدين؛ حيث الشعور الرائع الذي تتسرب فيه نسمات الرحمة وتصحيح مسار النفس وتحفيزها على اللجوء لله:

”إلهي قلبي محجوب، ونفسي معيوبة، وعقلي مغلوب، وهواي غالب، وطاعتي قليلة، ومعصيتي كثيرة، ولساني مقر بالذنوب، فكيف حيلتي يا ستار العيوب، ويا علام الغيوب، ويا كاشف الكروب، اغفر ذنوبي كلها بحرمة محمد وآل محمد يا غفار يا غفار يا غفار، برحمتك يا أرحم الراحمين“.