متى يكون التراجع أبلغ من المواجهة؟
في لحظة ما، يصل الإنسان إلى قناعة مُرّة: ليس كل حق يُسترد، ولا كل معركة تستحق أن تُخاض. هنا يولد المثل الشعبي الصادم في بساطته والقاسي في دلالته: «ما لحماري ذنب». عبارة قصيرة، لكنها محمّلة بتاريخ من الانكسار الاجتماعي، ووعيٍ شعبيٍ حاد بميزان القوة المختل، وبالعدل حين يغيب، وبالقضاء حين يُثقل كفّة على أخرى لا بالحق بل بالواسطة.
https://vt.tiktok.com/ZSPUa3V7x
هذا المثل لا يُقال عبثًا، ولا يُستدعى في لحظات الترف اللغوي، بل يخرج عادةً بعد طول عناء، وبعد أن تُستنزف كل محاولات الإنصاف. هو إعلان انسحاب، لكن ليس انسحاب الجبان، بل انسحاب العارف. العارف بأن الاستمرار ضربٌ من العبث، وبأن التمسك بالحق في ساحة لا تعترف إلا بالقوة قد يتحول إلى خسارة مضاعفة: حق مهدور، وكرامة مستنزفة.
«ما لحماري ذنب» ليست تبريرًا للضعف، كما قد يتوهم البعض، بل إدانة صريحة لواقع غير عادل. هي صيحة احتجاج مكتومة، يقولها صاحبها وهو يدرك أن الحمار — رمز البراءة في الحكاية — قد عوقب لا لذنب اقترفه، بل لأن خصمه أقوى، أو أقرب، أو أدهى في طرق الأبواب المغلقة. المثل هنا لا يدافع عن الاستسلام، بل يفضح منظومة تجعل التراجع خيارًا عقلانيًا.
وفي عمق المثل تتجلى فلسفة اجتماعية كاملة: حين تُدار القضايا لا بالحقائق بل بالأسماء، ولا بالبراهين بل بالعلاقات، يصبح التنازل أحيانًا فعل نجاة. ليس كل من تراجع خاسرًا، فبعض المعارك خاسرة قبل أن تبدأ، وبعض الساحات مفخخة بحيث لا يخرج منها أحد سالمًا مهما كان صادقًا.
ولذلك اقترن هذا المثل بأمثال أخرى في السياق نفسه، مثل: «يا مقيط دوك رشاك»، حيث التخلي عن الحبل ليس كسلًا ولا خيانة، بل ردٌّ على تجاهل الجهد وإنكار الفضل. فحين يُطلب منك أن تتحمل الثقل، بينما يُنسب الإنجاز لغيرك، يصبح الانسحاب موقفًا أخلاقيًا لا هروبًا.
المجتمع الذي تُكثِر فيه هذه الأمثال ليس مجتمعًا يحب الاستسلام، بل مجتمع تعلّم من التجربة. تعلّم أن بعض القضايا تُحسم قبل أن تصل إلى الطاولة، وأن العدالة — حين تُختطف — تتحول إلى عبء على من يطالب بها. وهنا تأتي حكمة المثل الشعبي، لا ليُربّي على التخاذل، بل ليُعلّم متى تُغلق الدائرة، ومتى يكون حفظ النفس أولى من استنزافها.
إن خطورة «ما لحماري ذنب» ليست في المثل ذاته، بل في الظروف التي تستدعيه. فالمثل في جوهره مرآة، وإذا كثر ترديده، فالمشكلة ليست في اللسان الذي ينطقه، بل في الواقع الذي يفرضه. واقع يُكافئ النفوذ، ويُهمّش العدالة، ويجعل البراءة عبئًا لا ميزة.
ورغم صخبه، يبقى هذا المثل درسًا بليغًا في الوعي الاجتماعي. إنه لا يدعو إلى ترك الحقوق مطلقًا، بل يحذّر من استنزاف الذات في معارك مختلة القواعد. يذكّرنا بأن الشجاعة ليست دائمًا في المواجهة، بل أحيانًا في الانسحاب الواعي، حين تتحول القضية من حق مشروع إلى فخّ مفتوح.
وهكذا، يبقى المثل الشعبي — وفي مقدمته «ما لحماري ذنب» — وثيقة اتهام شعبية، لا تُرفع إلى محكمة، لكنها تُحفظ في الذاكرة. صاخبة في معناها، جارحة في صدقها، ومؤلمة لأنها صحيحة أكثر مما ينبغي.













