ما وراء التشريع؟
ورد عن مولاتنا الزهراء
: «فجعل الله … والصوم تثبيتا للإخلاص» [بحار الأنوار ج 29 ص 223 ].
في تحفة سنية تحمل الكثير من المضامين الأخلاقية التي تحملها وتحويها العبادات الإلهية المفترضة على العباد، بما يكشف عن تربية ربانية وصناعة لشخصية المؤمن بما يتلاءم مع فطرته وكرامته وخط سيره التكاملي نحو التألق الإنساني، فالنفس المتوحِّشة تضرب يمينا ويسارا سيرا خلف الأهواء والشهوات المتفلِّتة واقعة في هاوية السقوط، وتحتاج لاستئناسها وتهذيبها ما يكبح جماحها ويحفظ طهارتها ونزاهتها، والعبادات برنامج تربوي يعيد بناء الشخصية المتوازنة بين جانبها
الروحي والمادي بعيدا عن المثالية الواهمة، فحين تحدّثت السيّدةُ فاطمة الزهراء
في هذه اللآلئ مرّت على العبادات واحدة تلو الأخرى كاشفة عن حكمتها الباطنية ووظيفتها التربوية في بناء الإنسان، ومن تلك القيم العالية وتمثل العمود الفقري والعامل المشترك المهم بين العبادات هو مفهوم الإخلاص، فالإخلاص تصفية النية من كل الدواعي سوى طلب وجه الله تعالى، بحيث لا يبتغي صاحبها مدحا ولا ثناء من الناس بما يرونه منه من أعمال صالحة ولا يطلب الموقعية والمكانة الاجتماعية، الإخلاص هو حالة استقرار قلبي تجعل عبادة الإنسان بعيدة عن الرياء وعن طلب ثناء الناس وعن كل دافع يُشرك مع الله تعالى غيره، هذا التثبيت لمفهوم الإخلاص في ميدان العمل الصالح يعني الاستقرار والتحصّن أمام المغريات والحفر الشيطانية، والذي يوسوس للإنسان بتكوين المكانة الاجتماعية من خلال إظهار الجانب العبادي عنده ومراءاة الناس به، ومن أبرز العبادات التي تكون بعيدة عن أنظار الآخرين والتفاتهم هو الصوم، فينعقد الضمير على إتيان عبادة الصوم مع ما يحمله من كبح للشهوات، بل يرى الصائم في الجوع والعطش ومظاهر التعب البدني بوابة للصدق مع الله تعالى إذ لا يشرف عليه رقيب إلا ضميره، وهذه السرية الروحية تجعل الصيام أنسب العبادات لغرس الإخلاص حتى يرسخ جذره في أعماق النفس، فالإخلاص لا يثبت إلا إذا امتلك الإنسان قدرة على ضبط شهواته ورغباته والصوم مدرسة لهذا الضبط، فالصائم يواجه طبائعه ويتجاوز حاجات جسمه ويستبدل الرغبات السريعة بقيم دائمة كالصبر وقوة الإرادة، حيث مع تكرار هذا التدريب على الصوم شهرا كاملا في كل عام تتقوّى ملكة المراقبة الذاتية، فيصبح الإنسان محكوما بقيمه لا بغرائزه وهذا هو لبّ الإخلاص.
البعض يعيش أسيرا لفكرة الثناء والمدح والسير خلفها مسيّرا كل أفعاله وتصرفاته تحت هذا الغطاء، وتصل النوبة إلى عباداته فيعمل وفق تسليط الأضواء عليها طالبا الشهرة والتصفيق الحار على ذلك، والصوم بكونه عبادة لا تُشاهد يعيد تشكيل علاقة الإنسان بنظرة الناس فهو يعمل لرضا الله وحده ولا يترقّب مديح أحد، وبذلك يحرّر الصيام قلب المؤمن من التعلّق بالصورة الاجتماعية ويدفعه إلى مستوى أعلى من الصفاء الباطني.
فلسفة الصوم أخلاقيا هو تنمية الضمير الواعي والرقابة الذاتية بعيدا عن العيون الكاشفة، فيعتاد على مبدأ تحمل المسئولية والأمانة والصدق والعمل الجاد، فعندما يتزاحم البعض طلبا للشهرة والمظهرية البراقة عند صنعه لمعروف مثلا، يصبح الصيام مدرسة ضرورية لتصفية القلب من شوائب الرياء.













