الممارسين الصحيين.. آلية توزيع الموارد البشرية
تتجه المملكة اليوم، بقيادة رؤية طموحة، إلى إصلاح عميق في القطاع الصحي. إصلاح يبدأ من الأعلى، حيث تُبنى الأنظمة قبل الأشخاص، وتُضبط الصلاحيات، وتُعاد هيكلة الوظائف وفق نموذج رعاية جديد يعتمد على الكفاءة والاختصاص. وفي خضم هذا التحول، يبرز سؤال ملحّ:
لدينا احتياج صحي حقيقي. فالأرقام السكانية، وعبء الأمراض المزمنة، ومتطلبات نموذج الرعاية، كلها تشير إلى توسّع لا انكماش. ورغم ذلك، تظهر حالات تعطل صحيين عن العمل. وهذا يعني أن الخلل ليس في «العدد» بل في آلية توزيع الموارد البشرية.
لسنوات، عانى القطاع من ممارسات إدارية موروثة لا تتوافق مع الحوكمة الحديثة. ممارسات تُعرَف عالميًا بأنها بيئة مثالية لظهور «بطالة مقنّعة». وظائف تُشغَل بمن لا يمتلكون مؤهلاتها، ومسميات لا تعكس طبيعة العمل الفعلية.
وفي السنوات الأخيرة، بدأ التحول الصحي بمعالجة الطرف الأسهل تنظيميا: الممارس الصحي.
فهو مصنف من الهيئة، ومسجَّل، وتقييمه ممكن، وربطه بالبدلات واضح. لذلك، جاءت إجراءات مثل: ربط البدلات بالتصنيف المهني. تدقيق التوافق بين المهنة والمسمى الوظيفي. الحصر الوطني للممارسين والوظائف الصحية. وهي خطوات مهمة طال انتظارها.
لكن إصلاح بطالة الصحيين لن يكتمل ما لم يشمل التخطيط وتوزّيع الوظائف.
الخريج الصحي سيظل ينتظر دوره، ما دامت بعض الوظائف تشغلها كوادر ليست من نفس تخصصها، وما دام التخطيط البشري يُدار بعقلية «من يناسب المقعد»، وليس «من يحتاجه النظام».
وهنا يظهر البعد التنظيمي السعودي. فالمرجعيات الرسمية — لائحة الموارد البشرية، دليل الحوكمة، أدلة وزارة الصحة، ومعايير التخطيط للقوى العاملة في التحول الصحي «Health Workforce Planning» — تعطي إطارًا واضحًا لما يجب أن يكون عليه الوضع:
• الوظيفة تُمنح وفق الكفاءة.
• الصلاحيات تُحدد وفق الهيكل.
• الاختصاص يُطابق الدور الفعلي.
• الموارد تُدار وفق نموذج الرعاية وليس الممارسات التقليدية.
هذه المرجعيات ليست نصوصًا نظرية؛ بل أدوات إصلاح حقيقية لو استُخدمت بكامل قوتها. فهي تضمن توحيد المعايير، وتحديد الكفاءات المطلوبة لكل دور، ومنع ازدواجية الصلاحيات، وتفعيل آلية تدوير العادلة للفرص — وهي نفس المبادئ التي اعتمدتها أنظمة عالمية مثل «NHS» البريطانية وكندا وسنغافورة عندما واجهت تحديات مشابهة.
اللافت في التحول الصحي السعودي أنه بدأ يقترب من هذا الاتجاه:
رقابة أقوى من الموارد البشرية، مراجعة دقيقة للوظائف، اشتراطات أعلى للقيادات، وحراك واضح نحو ضبط البدلات والصلاحيات. وهي إشارات جيدة على أن التصحيح لا يستهدف الأفراد... بل يعيد بناء النظام. لكن ما يحتاجه القطاع اليوم هو استكمال هذه الخطوات:
أن يُطبق نفس مستوى الانضباط على الوظائف الإدارية والقيادية، مثلما يُطبق على الممارسين الصحيين. فالمشكلة ليست في الطبيب أو الممرض أو الأخصائي.. بل في البيئة التي يُوضع فيها.
إصلاح الحوكمة يحمي الجميع. يحمي الوظيفة العامة من تضارب المصالح، ويحمي الكفاءات من الإقصاء، ويحمي بيئة العمل من الاعتماد على العلاقات بدل المعايير.
وعندما تتوحد السياسات التنظيمية مع واقع التطبيق، سيختفي ما يسمى «بطالة صحيين».. لأنها لم تكن بطالة حقيقية، بل سوء استثمار للمهارات.
إن المملكة اليوم أمام لحظة تاريخية: أن تجعل التحول الصحي ليس فقط تغييرًا في نموذج الرعاية، بل في طريقة التفكير الإدارية نفسها.
وعندما يحدث ذلك، سيجد كل ممارس صحي موقعه الطبيعي، وستتحول البطالة من مشكلة هيكلية.. إلى فرصة تصحيحية تُبنى عليها بيئة عادلة وشفافة وفعّالة، كما هو جوهر رؤية وطن يبني المستقبل على الحوكمة قبل كل شيء.













