النوادر الياسرية «8»: بقايا زنجبيل
أضحكني أحد أصدقائي حين وصف عمه في الشتاء وهو يحتسي شراب الزنجبيل؛ إذ قال: يشرب الزنجبيل، ثم إذا فرغ أخرج بقاياه ليعلكها مرارًا فيعطّر بها فمه، ثم يمرّرها بأصابعه على لثته زاعمًا أنها تعالج حساسيتها، ثم يضع تلك البقايا المسكينة على ركبتيه مدّعيًا أنها تدفئهما وتسكّن الألم.
يعلّق صديقي قائلاً: شعرت وكأن بقايا الزنجبيل تكاد تصرخ باللهجة المصرية «سامحني يا باشا».
فضحكت من سخريته الظريفة وقلت: وماذا تسمي ذلك؟ بخلٌ أم فنّ استغلال الموارد؟
فأجاب مبتسمًا: قطعًا بخلٌ إلى أن ينقطع النفس.
قلت: مشكلتنا أننا نعاني من خلط في المفاهيم والمصاديق؛ فمثلًا قد نصف من يحمل بقايا طعامه من المطعم بأنه بخيل، بينما هو في الحقيقة يُجيد احترام نعم الله ويُحسن شكرها، مطبّقًا قول أمير المؤمنين
«إذا وصلت إليكم أطراف النعم فلا تُنفّروا أقصاها بقلة الشكر» [1] . وأحد وجوه الشكر هو الحفاظ على النعم، بل ورد النهي عن الإسراف في الوضوء حتى لو كان من نهر جارٍ [2] .
وبالمناسبة، عمك هذا الذي تصفه بالبخل له إسهامات كثيرة في المجتمع لكنها بينه وبين ربه، وإن بدا لك أنه يبالغ قليلًا في الاستغلال الأمثل للموارد.
أما البخل الحقيقي في نظري، فليس مجرد إمساك عن الإنفاق فيما ينبغي، بل هو بخلٌ نفسي ومشاعري يُفرغ صاحبه من سخاء الروح قبل أن يفرغه من المال. ولعل أصدق تصوير له ما جاء في المثل العراقي الشهير «ما يبول على يد مجروح» - كُرِم قدر القارئ - وهو كناية عن البخل الشديد الممزوج باللؤم، حيث يصف شخصًا لا يقدّم المساعدة حتى لو كانت مجانية ولا تكلّفه شيئًا، إذ كان البول - أجلكم الله - يُستخدم قديمًا لوقف نزيف الجرح أو لتطهيره [3] .
وفوق ذلك، ما أبدعه الجاحظ في كتابه الخالد البخلاء، الذي يُعد تحفة أدبية ونفسية، إذ جمع فيه قصصًا واقعية عن البخلاء الذين عرفهم في البصرة ومرو بخراسان، بأسلوب ساخر يمزج بين الطرافة والعمق، ويكشف عن خبايا النفوس البشرية. فهو ليس مجرد كتاب نوادر، بل دراسة اجتماعية ونفسية واقتصادية عن ظاهرة البخل.
وحسب تتبّعي القاصر، كان أدق تشخيص للبخل هو لأمير المؤمنين
بلا منازع، إذ قال «عَجِبتُ للبخيلِ يَستعجِلُ الفَقرَ الّذي مِنه هَرَبَ، ويَفوتُه الغِنى الّذي إيّاهُ طَلبَ، فيَعيشُ في الدُّنيا عَيشَ الفُقراءِ، ويُحاسَبُ في الآخرةِ حسابَ الأغنياءِ» [4] .
فقد وصف الإمام حال البخيل بأنه يهرب من الفقر، لكنه بسلوكه يستجلبه إلى نفسه، لأنه يعيش حياة الحرمان رغم امتلاكه المال. والمفارقة أنه لا ينال الغنى الذي يطلبه، لأنه لا يتمتع بما يملك، فيعيش في الدنيا كالفقراء، لكنه في الآخرة يُحاسب حساب الأغنياء لأنه كان مالكًا للثروة.
وهكذا يجمع النص بين التعجب والتوبيخ، ويكشف عن تناقض داخلي في شخصية البخيل محروم في الدنيا، مثقل بالمسؤولية في الآخرة. وكأن الإمام
يريد أن يقول لنا إن البخل ليس مجرد صفة مالية، بل هو مرض روحي يجعل صاحبه يعيش في ضيقٍ دائم، ويُحاسب في النهاية على ما لم ينتفع به.













