آخر تحديث: 13 / 12 / 2025م - 4:55 م

اختلال الأولويات في المجتمع… قراءة في تحوّلات العصر

زكي الجوهر *

نعيش اليوم زمناً صار فيه المنطق آخر من يُستشار. ازدحمت العقول بصخب المنصات حتى تعطّلت بوصلة الوعي، وارتفع الهامشي فوق الضروري، وأصبح الفرع أغلى من الأصل… بلا حياء.

تأمل المشهد: أرقام لوحات تباع بملايين، أغلى من السيارة نفسها. رقمٌ بلا معنى يتحول إلى صكّ وجاهة، بينما تصبح المركبة التي تتحرك وتمشي وتخدم أقل قيمة من قطعة معدن لا تنفع ولا تضرّ. هذا ليس اختلاف أذواق؛ هذا اختلال عقل واضح.

وانظر إلى سوق العقار: أرض فارغة تُسعَّر بأكثر من قيمة المنزل المشيّد فوقها. البيت الذي يُفترض أن يضمّ أسرة ويمنح سكينة، صار مجرّد تفصيل أمام لهاث المضاربة. قيمة السكن صارت في الموقع، لا في السكن نفسه… في العائد، لا في راحة الإنسان.

ثم نصل إلى الزواج؛ ذلك الميثاق الذي كان بداية بناء، فإذا به يتحوّل إلى ساحة سباق على القاعات والكوشات والمظاهر. ليلة واحدة قد تُغرق شابًا في الديون وتُرهق أسرة كاملة، فقط ليقال: ”عرسهم كان غير!“. المعنى ضاع، والجوهر دُفن، والنتيجة… زواج يبدأ مُثقلًا بما لا يحتمل.

وحتى في أبسط تفاصيل الحياة، صارت خدمة التوصيل أغلى من الوجبة. ندفع أكثر لأجل أن تصل الرفاهية أسرع، بينما القيمة الحقيقية لما نشتريه تتراجع إلى المرتبة الثانية… وربما الثالثة.

لكنّ الانحراف الأكبر ليس في المال، بل في الإنسان. أصبح صفاء البشرة أهم من صفاء القلوب، والمظهر أغلى من المضمون. جيلٌ كامل يسعى إلى ”فلترة“ صورته بينما يهمل ”فلترة“ ذاته. انشغال محموم بمساحيق الشكل، وإهمال مخجل لمحتوى الروح. نعيش في زمن يُعبد فيه الغلاف، ويُنسى الكتاب. زمن يتصدر فيه الوهم وتُدفن الحقيقة.

ولنكن صريحين: هذا المسار خطير. حين تصبح المظاهر معيارًا، والسطحية قيمة، والتفاخر نمط حياة… فالمجتمع كله على حافة فقدان وعيه. إصلاح هذا الخلل لا يبدأ بحملة توعوية ولا بنصيحة مثالية؛ يبدأ أولًا بالاعتراف بأننا انحرفنا، وأن أولوياتنا تافهة، وأننا نحتاج إلى إعادة تشغيل العقل وإعادة ترتيب الوعي قبل أن نفقد القدرة على التمييز بين ما يُؤكل وما يُلقى، بين ما له قيمة وما هو مجرد ضجيج.

لقد آن الأوان أن نسأل أنفسنا بصراحة مؤلمة:

هل نعيش فعلاً وفق قيمة… أم وفق وهم؟