ولا تُسكنّي الهاوية «2»
يطرح علماء التربية مبدأ مهما في صناعة الشخصية المتزنة والمتكاملة ألا وهو التركيز على جانب التشجيع وبث روح الأمل؛ حفظا للفرد من الوقوع في هاوية اليأس والتشاؤم وفقدان روح المثابرة والنهوض مجددا، ولذا يركّزون على جانب الحوار مع الشاب بروح إيجابية ودفعه نحو زاوية الطموح والعمل مهما كانت سلبياته أو نقاط الضعف عنده، فهل يُعدّ ذكر المصير الأشد ألما في قعر جهنم «الهاوية» مخالفا للأساليب التربوية الداعية إلى تجنب التعنيف والخطاب المُحبِط والكلمات ذات المردود والنتائج العكسية؟!
جانب الاعتدال في شخصية الإنسان يتقوّم بالتوازن بين الرجاء والأمل من جهة والارتداع والخوف من العقوبات الأليمة من جهة أخرى، فالتشجيع وبث الروح الإيجابية لا يعني التغاضي عن الأخطاء والتجاوز عنها وتركها دون محاسبة ومعالجة، بل التحليق في فضاء العمل بجناح التشجيع لوحده سيدفعه نحو التمادي والتجرّؤ وصدور الأفعال غير المسئولة، وبالتأكيد لا يوجد من يدعو إلى سير الفرد بهذا الاتجاه المؤدي إلى حياة الغفلة والضياع، كما أن أسلوب الترهيب والزجر لوحده سيولّد نفسا هلوعة تصاب بالهواجس والاضطراب النفسي، وأما المنهج الأخلاقي فيدعو إلى حالة التوازن بين الترغيب والترهيب، ومحاسبة النفس تنطوي على مراجعة ذاتية ووقوف على الأخطاء وأوجه التقصير طلبا لتفاديها مستقبلا، ومن هذا المنظور يصبح ذكر الهاوية وسيلة تربوية تهدف إلى إيقاظ الضمير لا إلى إثارة الخوف فقط، إذ يُنظر إلى الآخرة كامتداد طبيعي لأعمال الإنسان في الدنيا بحيث يُجسَّد الباطن على هيئة حساب وجزاء، ومن خلال هذا الفهم تبدو الهاوية مفهوما عقديا وأخلاقيا في آن واحد، فتُستخدم لتجسيد النهاية المظلمة لمسار يختاره الإنسان بإرادته، ولتذكيره بأن العدالة الإلهية لا تفصل بين نية الإنسان وعمله، وهكذا تتحوّل الهاوية من مجرد وصف لعقوبة أخروية إلى رمز عميق يحثّ النفس على التنقية واليقظة، ويؤكد أن الطريق إلى النجاة يبدأ من إدراك الإنسان لمسؤوليته عن مصيره الروحي.
حين نحدّق في هذا البعد الغيبي نكتشف أنّ الهاوية مرآة تكشف ما تراكم في الداخل وما تهاونت النفس في تهذيبه، هناك حيث تتجسّد البواطن على هيئة جزاء يتبدّى أن الظلمة ليست سوى ظلّ الخيارات التي أخذناها بلا مبالاة، وأن العدالة الإلهية ليست سوطا يهبط من السماء بل قانون نوراني يربط الفعل بروحه والنية بأثرها العملي.
ذكر الهاوية همسة تُنَبِّه القلب الغافل إلى ما ينسجه من مصيره بيديه، وكأن الهاوية معلّم يهمس لك بالحذر من الخُطى المحصاة غدا في صحيفة الأعمال، فهي رمز يوقظ السائر في دهاليز الحياة لئلّا يتحوّل انحداره البسيط اليوم إلى سقوط كبير ومدوٍّ غدا، وحين نفهم هذا المعنى يتحوّل الخوف إلى بصيرة، وتكتشف النفس أن النجاة تبدأ عند لحظة وعي تُقرر فيها أن تنفض الغبار عنها وتعود إلى نورها، بعد أن تُدرك أنّ خلاصها يُولد من داخلها ومن مسؤوليتها عن ملامح مصيرها الروحي.













