يزأر الأسد ولكنه لا يلتهم شبله
من الحكم الاجتماعية الموروثة: «كلّ فتاة بأبيها مُعجبة»، وتُعدُّ هذه الحكمة من الحكم الوصفيّة التي تحكي أجمل علاقة بين الأب والبنت. ولم تقتصر هذه الحكاية الجميلة على البنت فحسب، بل جاءت حكمة وصفية مشابهة لها تصف علاقة الولد بأبيه، فجرى على ألسنتهم:
«الولدُ سرّ أبيه» و«من شابه أباه فما ظلم».
وعندما نترك قصة حواء وآدم جانبًا، سوف تبرز علاقات اجتماعية تختلف عن علاقة الزوجة بزوجها في الحبّ وجنون العشق، ولا تقلُّ أهميةً عنها؛ فهناك علاقة الأب بابنته التي قد تصل لغيرة البنت من أمها، حتى سمعنا في بعض أحاديث النساء أن البنت تشبه الزوجة الثانية في غيرتها من والدتها.
والجدير بالذكر أنّ أول أحلام الفتاة تنسجها برفقة والدها؛ هو بطلها، وحبيبها الأول، تستند عليه وتعيش برفقته، تهرع إليه عندما تتعثر في حياتها، وتستند عليه عندما تخونها أقدارها.
وهذا الحب ليس وليد زمننا فحسب، بل هو الحبّ الفطريّ الذي أنعش ذاكرة أمي، فكانت تروي لي الكثير من القصص والروايات المدهشة منذ زمن طفولتها مرورًا بأزمنة مختلفة ومتعددة؛ لذلك كنت أضعها أمام أحجية في منتهى التّعقيد عندما أسألها:
رواية أم قصّة؟
فتُجيبني تجاوزًا وهي تضحك:
لا قصّة ولا رواية، وتذكر اسم بطلها.
لا تبحث عن الفن وابحث عن صاحبه. كانت أمي ذات موهبة في رواية الأحداث القصصيّة، ومن براعتها في القصّ أنّها كانت تضعني بين عالمين لا يربطهما أيّ رابط: عالمي وعالم أحداثها، فكنتُ أهجرُ عالمي وأسرح بخيالي معها، يذوب زمني بين يديها، وفي حصن أمي تُدك كلّ الحصون المنيعة، لكن مشاعري هذه المرة اختلفت؛ فأمي مع بطلتها «مدينة» استحوذتا على عرش قلبي وقلمي في آن واحد.
أصبحتْ أفكاري طوع قلمي، تُصاغ متى ما أُصدرت لها الأوامر، قابلة للنمو وللمزايدة تبعًا لعنصر الجذب والتّشويق.
«مدينة» هذا هو اسمها كما حدثتني أمي، تزوجتْ «مدينة» من رجل كان يعاملها بقسوة، بل حتّى والدته وأخته كانتا تكيلان الشتائم لها، وتناديها بـ «الحصير الواقف» بحسب تسميتهما للمرأة التي لا تنجب.
ولما ضاقت بها الدنيا بما رحبت، خرجت من منزل زوجها مُتّجهة لمنزل والدها، وفي عينيها دموعٌ غزيرة تُسابق شكواها.
عندما وصلت «مدينة» لمنزل والدها، فتح والدها لها الباب. وعندما رأى ابنته الوحيدة بحالة يُرثى لها من الألم تضخّم رأسه واحمرّت عيناه، مثل أسد يزأر، وقد يزأر الأسد ولكنه لا يلتهم شبله كما جاء في الأمثال الأجنبيّة؛ لذلك أخذها من فوره إلى حضنه.
قالت له: لا تؤاخذني يا أبي، لا أستطيع العودة له ولا لأهله، أبي لا أفهم إرادة الله تعالى في أن أعيش معه في منزل واحد، وأعرف أننا في زمن يُحرّم على المرأة الطلاق، بل يعتبره جرمًا في حق نفسها وفي حق أسرتها، لكنني يا أبي...
قاطعها وقد انتفض جسده:
يتعذّر عليك بيته، ورس أبوك يشمّ الهواء.
أخذ ابنته في حضنه مرة أخرى وربّت على كتفيها، ووعدها بأن ينصرها في دنيا قست عليها. قال لها:
بُنيتي أتعلمين ما الحياة في نظر أبيك؟
قالت بحزن:
أنا لا أعرف طعمًا للحياة ولا لونًا ولا رائحةً تُذكر. كرهتُ الحياة، لا أعرف لها معنى.
أجابها والدها بُحب:
أنا أحب الحياة ولكنني لا أعرف لها طعمًا وأنت تتألمين. فكيف لي أن أحبّ حياتي ما لم تكوني سعيدة؟
هذه ليست مبالغة، ولا دلالًا مفرطًا وإنّما هكذا يجب أن تُعامل البنت في حمى والدها.
يجب ألا تعامل بوحشيّة خشيةَ انكسارها، ولا تُهان في حماه، وإنّما يجب على والدها توجيهها بلغة داعمة تُعزز الثقة بالنفس وتغرس بذور استقلالية الرأي لتُثمر مستقبلًا عقلًا راجحًا ورأيًا صائبًا.
وعندما جاء زوجها خلفها يريد استعبادها مُجددا طلب منه والدها تطليقها، قال له بشموخ الأب المربي:
«الغصن لا يميل إلا من أصله» وابنتي أصيلة ابنة كرام، «مدينة» ليست حصيرًا واقفًا كما تناديها أمك، اتركها وشأنها هي ابنة أبيها، لتكرمنا بالابتعاد عنها، دعها لوالدها.
مرّت الأيام سريعة واستطاعت «مدينة» التّشافي من جراحاتها ونسيت حياتها في بيت زوجها، وبدأت الابتسامة ترتسم على وجهها. تزوجت من رجل مؤمن، يحترمها كثيرا، وكوّنت أسرة جديدة، وأنجبت خمسة أطفال. وبعد سنوات طويلة سمعت أن زوجها السابق تزوج أيضًا ولكنه لم يُنجب، مرّ على خاطرها أصوات بليت منذ زمن لكن صداها ظلّ يتردد من حناجر بائسة، تجاهلت تلك الأصوات وقامت من مكانها.
أخذت «مدينة» تفتح نوافذ منزلها ليدخل نور شعاع الشمس إلى أعماقها وهي تتنفس بهدوء وتلوّح بيديها إلى زوجها وأبنائها وهم قادمون من المسجد.
ارتسمت على محياها ابتسامة ممزوجة بالرضا والانتصار وهي تداعب نفسها وتقول: كان هو الحصيرَ الواقفَ ولست أنا.













