نور الشخص تمثل لي حالة خاصة
”نور“ قصة إنسانية تستحق الوقوف والتأمل، عندما سمعت قصتها ومشوار التحدي الذي فرشته بالإرادة والصمود، بالرغم من الإعاقة، إلا أنها أثبتت للعالم أن الإعاقة ليست إعاقة الجسد، وإنما تكمن الإعاقة في العقل والروح.
وردة نمت وسط أسرة مؤمنة، مبدأها: ”ما رأيت إلا جميلًا“، فكانت هي الجميل الذي غير وجه العالم من حولها، وكانت روحها مرآة لتجلي الجمال الحقيقي للإنسان.
ما سمعته على لسان والد ”نور“ أعادني إلى الوراء، إلى ذاكرة عمرها إحدى وعشرون سنة مضت، نفس الظروف تقريبًا، مع مفارقات في السبب بين ولادة مبكرة وولادة مكتملة، ولكن النتيجة واحدة: قلة الأكسجين الذي يحمل الحياة، نقص يعني اختناق الخلايا، نقص يعني تعطل بعض مراكز الإحساس والحركة.
المحصلة النهائية في كلتا الحالتين، إعاقة جسدية.
وفقًا لقانون الابتلاءات، قُدّر لـ ”نور“ أن تعيش وتكمل مسيرتها في هذه الحياة، بقوة الإيمان الذي أضاء لها الطريق، ليشرق نورها في حياة والديها ومن هم في محيطها. بينما ”أحمد“ لم يكمل الرحلة وفضل الرحيل. ورأيت في ”نور“ ابني الذي رحل بعد شهر من ولادته.
كنتُ أمًّا لأول مولود، أول فرحة، ”أحمد“ وُلد في الشهر السادس؛ لأن رئته لم تكتمل بعد في هذه المرحلة. بقي في الحاضنة لمدة شهر كامل. تركته في ذلك الصندوق الزجاجي تحتضنه الأنابيب والأجهزة بدلاً من حضني.
خرجتُ وحيدة بألم وخيبة أمل، خاصة بعد سماع كلام الطبيب حين قالها بخجل: لو قُدر لطفلك أن يعيش فسيكون غيرَ طبيعيٍّ، ستكون لديه مشكلة في الحركة والمشي والنطق، وغيرها من المشاكل الصحية.
كل الأحلام تبخرت، وكأنها سحب صيفية.
خرجت من المستشفى جسدًا بلا روح، فقد ظلت روحي هناك، تحوم حول الحاضنة، تنتظر طفلي حتى يستفيق ليبدأ بالبكاء: ”ماما أنا هنا، أشعر بالجوع، أرضعيني من خلاصة روحك، أحتاج لمسة يدك لأشعر بالأمان، أريد أن أشم رائحتك، لأتنفس الأكسجين الذي ينقص عندي ويجعلني أختنق“.
لكن القدر لم يرد لي أكثر من شهر، هذا هو الحد المسموح به.
ومع كل قصة تشبه قصة ”نور“ كنت أشعر أن الله يعيد ترتيب أوجاعي بيده، ليعلمني أن الفقد ليس نهاية الطريق، بل بداية بصيرة جديدة.
”نور“ كانت مرآة، رأيت فيها ظلال ”أحمد“، وسمعت في صمودها صدى بكائه الأول والأخير، كأن الله يقول لي بلطفه الخفي: ما يغيب عن يدك، لا يغيب عن رحمتي.
عندها فهمت أن موت ”أحمد“ لم يكن انطفاءً، بل انتقالًا، انتقالًا من حضني الصغير إلى سعة رحمة ربٍّ لا يضيّع أحدًا. وأن ”نور“ لم تكن مصادفة، بل علامة، ضوءًا يربط بين السماء والأرض، بين طفلٍ رحل قبل أن يتعلم المشي، وطفلةٍ قررت أن تمشي في هذا العالم، رغم إعاقتها.
فكبرتُ على هذا اليقين، أن الله إذا أخذ منك شيئًا أعاد إليك شيئًا آخر يشبهك ويشبه من فقدت، لكنه يأتيك بحكمة أكبر، وبقلب أقوى، وبنورٍ أعمق.
وهكذا ظل ”أحمد“ غائبًا بجسده، حاضرًا بروحه، يمسك بيدي دون أن أراه، ويأخذني إلى حيث يكون النور.
”نور“ التي اكتشفت معها أن بعض الأرواح لا ترحل حقًا، بل تغيّر شكل حضورها فقط.













