على مشارف السبعين من عمره… البروفيسور رضي المبيوق يعود إلى مقاعد الدراسة بعد التقاعد مباشرة
ينطبق القول المأثور «اطلبوا العلم ولو في الصين» بكل دلالاته على شخصية ضيف هذا الحوار، البروفيسور رضي المبيوق. فالمسافات التي كانت يومًا ضربًا من المشقة أصبحت اليوم قابلة للطيّ بفضل تقدّم الطيران، غير أنّ الدكتور المبيوق استلهم من هذا القول جوهره العميق: الشغف بالعلم، والصبر على متاعب الرحلة، والقدرة على كسر القيود الجغرافية في سبيل المعرفة. ومن ورشة صيانة في شركة أرامكو بمدينة الظهران عام 1975 م، بدأ رحلته التي قادته إلى الولايات المتحدة، حتى تخرّج في عام 1990 م حاملاً درجة الدكتوراه بمرتبة الشرف الأولى من جامعة ويسكانسن - ماديسون University of Wisconsin-Madison، وكانت أطروحته المميزة بعنوان: «العفو كعلاج لحالة الحرمان العاطفي الوالدي في علم النفس».
سيرة الدكتور المبيوق سلسلة متواصلة من الإنجازات البحثية والمعرفية، وغنية بإسهاماته المجتمعية التي لم تتوقف حتى بعد التقاعد. وبرغم تخصّصه الأكاديمي في علم النفس التربوي، إلا أنّ جذور خبرته المهنية الأولى في ورش الصيانة بقيت حاضرة في وجدانه؛ فجدد ارتباطه بها بعد التقاعد والتحق بسنة دراسية كاملة للحصول على شهادة أكاديمية في إصلاح المحركات، ليجمع بين الباحث والمربّي من جهة، والميكانيكي المتمرّس من جهة أخرى.
ضيفنا هو المؤلف، الباحث، الأكاديمي، المشرف على عشرات رسائل الماجستير والدكتوراه، والمؤسس لمركز أبحاث، وصاحب حضور اجتماعي فاعل في ولايته وخارجها. شخصية متعددة الواجهات، تتقاطع فيها الخبرة العلمية مع المهارة العملية، وتتكامل فيها الحكمة التربوية مع روح الخدمة المجتمعية.
ومن أجل الاقتراب أكثر من هذه التجربة الثرية، وفتح نوافذ جديدة على عالمه الفكري والمهني، أبحرنا معه عبر مجموعة من الأسئلة المتنوعة، لنغوص عميقًا في هذا البحر المعرفي ونلتقط من أعماقه جواهر تستحق التأمل.
يرتكز هذا البرنامج في جوهره على المزج المتوازن بين المعرفة النظرية والممارسة العملية؛ إذ يهدف إلى استيعاب آلية عمل المحركات الصغيرة بكفاءة عالية، واكتساب القدرة الفنية الدقيقة لتشخيص الأعطال ومواطن الخلل التي قد تطرأ عليها، ومن ثم تطبيق الأساليب والمعايير الصحيحة لإصلاحها وصيانتها.
ويندرج تحت مسمى ”المحركات الصغيرة“ طيفٌ واسع من المحركات التي نألفها في استخداماتنا المتعددة، وفي مقدمتها محركات الزوارق البحرية — التي حظيت بالجانب الأكبر من تركيزي واهتمامي — إلى جانب محركات الدراجات النارية، ومركبات التنقل فوق الجليد «Snowmobiles». كما يمتد هذا التخصص ليشمل المحركات المستخدمة في المعدات الخدمية، مثل آلات إزالة الثلوج، وجزازات العشب، ومناشير قطع الأخشاب.
ويمتاز البرنامج بتركيزه العميق على مهارات تشخيص الأعطال وصيانة المحركات، مما يمنح الدارس خبرة تقنية متكاملة في التعامل مع مختلف أنواع المحركات الصغيرة المستخدمة في الأنشطة البحرية والرياضات الميكانيكية. وقد امتد تنفيذ البرنامج على فصلين دراسيين كاملين، هما فصل الخريف 2024 وفصل الربيع 2025.
وبالعودة للحديث عن دافعي الشخصي للالتحاق بهذا البرنامج، فإن جذور شغفي بمعرفة آلية عمل المحركات وطرق تشخيص أعطالها وإصلاحها تعود إلى السنة العملية التي قضيتها في ورش الصيانة التابعة لشركة ”أرامكو“ في مدينة الظهران عام 1975 م. وقد جاءت تلك المرحلة بعد انقضاء عامين في دراسة اللغة الإنجليزية، ومواد أساسية كالرياضيات والعلوم، بالإضافة إلى دورة في التعليم المهني وأخرى مكثفة في الإلكترونيات بمركز التدريب المهني في الحي الصناعي لأرامكو بمدينة رأس تنورة.
كانت تلك السنة العملية تهدف إلى تقييم مهارات الطلاب وتحديد مواقع عملهم المستقبلية، لكن تحديد التخصص كان إملائيًا وغير اختياري، مما جعلني أُفكِّر جديًا في ترك أرامكو واستكمال دراستي في أمريكا.
وخلال تواجدي في ورش الصيانة، تنقلت بين ثلاث دوائر، وقضيت جلّ وقتي في القسم المخصص لإصلاح المضخات ذات الأحجام والاستخدامات المتعددة في الشركة. ومن حسن الطالع أنني حظيت بتدريب وإشراف من قبل فنيين قديرين؛ أحدهما من الأحساء والآخر من تاروت. وإنني لأشعر بامتنان عظيم لهذين الرجلين، إذ لم يدخرا جهداً في تعليمي ومنحي الفرصة الكاملة للتطبيق، حتى تمكنت بعد فترة التدريب من إتقان تشخيص أسباب أعطال المضخات وكيفية إصلاحها.
إن عمق شغفي بالميكانيكا يعود لتلك الأشهر المعدودة التي قضيتها متدرباً تحت إشراف هذين الرجلين، اللذين كانا من خيرة وأجدر العاملين في أرامكو بمجال المضخات. لقد علماني ما هو أثمن من مجرد معرفة مكامن الخلل التقني وطرق إصلاحه؛ علماني الإصرار وعدم الاستسلام عند مواجهة أي تحدٍ، فقد كان شعارهما الدائم: ”لكل شيء حل، وليس هناك شيء مستحيل“.
وقبل تقاعدي بخمس سنوات تقريبًا، بدأ شغفي يتجدد مع محركات الزوارق، فبدأت أتابع المقاطع المهنية المتخصصة وأتعرّف على تفاصيل عمل هذه المحركات وأعطالها. وحين أدركت أن لدي رغبة حقيقية في التعمّق، التحقت بالبرنامج الذي يمتد يوميًا من الثامنة صباحًا حتى الرابعة عصرًا، أربعة أيام في الأسبوع، إضافة إلى حضور اختياري يوم الجمعة… ولم أترك جمعة واحدة دون حضور.
كان هدفي واضحًا: الربط بين المعرفة النظرية والتطبيق العملي، وفهم كل ما يتعلق بالمحركات وأجزائها، بدءًا من طريقة عملها، مرورًا بتشخيص أعطالها، وانتهاءً بمهارات إصلاحها.
ولعل أجمل ما في الرحلة كلها أن الشغف القديم وجد طريقه من جديد، لكن هذه المرة مدعومًا بالخبرة، والنضج، والرغبة الصادقة في التعلم.
1. التركيز النوعي: التركيز العميق للبرنامج على محركات الزوارق، وهو المجال الذي رغبت في التخصص فيه منذ البداية.
2. مرونة التطبيق: إتاحة حرية الاختيار للمتدربين في تحديد نوعية المحركات التي يرغبون في العمل عليها عملياً، بما يتفق مع توجهاتهم ورغباتهم الخاصة.
3. الميزة المالية: إعفاء المتقاعدين من الرسوم الدراسية تقريبًا؛ فقد دفعت ما يقارب 80 دولارًا فقط، بينما دفع الطلبة الآخرون ما بين 10 إلى 11 ألف دولار للبرنامج نفسه.
4. الدعم اللوجستي: وفرة خيارات السكن الملائمة والمريحة على مقربة من الكلية.
5. الامتداد المهني: وجود وكالات وشركات مختلفة متخصصة «في بيع وصيانة المحركات والمعدات» في المنطقة المحيطة.
6. جودة التدريب: أن عدد الطلبة في الفصول لم يتجاوز ال 15 طالباً، مما أتاح لي فرصةً مثالية للحصول على انتباه وإرشاد شخصي أكبر، وخاصة أثناء مرحلة التطبيق العملي.
أما الأهداف الأخرى التي أسعى لتحقيقها، فهي متعددة ومتنوعة وتشمل:
1. توثيق السيرة: تدوين مذكراتي الشخصية التي تغطي الفترة الزمنية لما قبل السفر إلى أمريكا وما تلاها.
2. الريادة البحثية: مواصلة إدارة مركز البحوث الخاص بي في مدينة شيكاغو، وتمديد شبكة علاقاته مع الأكاديميين والباحثين داخل الولايات المتحدة وخارجها.
3. المشروع المعرفي: مواصلة تأليف كتاب يتألف من ثلاثة أجزاء، يختص بالتربية في مراحل الطفولة المبكرة والطفولة المتأخرة، بالإضافة إلى مرحلة المراهقة؛ وهو مشروع بدأت بالفعل في تجميع مصادره من الكتب والمقالات المتخصصة.
4. الاستكشاف الجغرافي: تنظيم زيارات استكشافية إلى بلدان وقارات جديدة لم يسبق لي زيارتها حتى الآن.
وبهذا كان البرنامج لبنة مهمة في تحقيق مجموعة من الأهداف المهنية والشخصية التي خططت لها قبل التقاعد بسنوات، وأسهم في فتح أبواب جديدة للتعلم والمتعة وتطوير الذات.
ولتحقيق أقصى درجات التركيز والتحصيل العلمي العميق الذي تتطلبه الدراسة، قمت باستئجار شقة سكنية خاصة، وأقمت منفرداً في مدينة برينرد طوال فترة البرنامج. وقد فرض عليّ هذا الالتزام تقليص اللقاءات العائلية، حيث ألتقي بالعائلة مرة واحدة فقط شهرياً.
وفي الوقت نفسه، كانت لزوجتي خطتها الخاصة خلال مرحلة التقاعد، حيث التحقت بعدة دورات متقدّمة في الخياطة وصناعة ال Quilts، وهي أعمال فنّية تعتمد على قصّ أشكال هندسية متنوعة من القماش وتجميعها لصنع قطع شبيهة بالبطانيات الصغيرة. كان هدفها أن تُهدي ما تنتجه للأطفال من العائلات المحتاجة، وهو مشروع إنساني جميل ظلّت تعمل عليه بشغف.
لم يكن هناك وقت للراحة أو الانفراد، فقد كان علينا أيضًا إكمال دورات تدريبية عبر الإنترنت، تتضمن مشاهدة برامج تعليمية، وإجراء اختبار بعد كل جزء، والحصول على شهادة إتمام لكل قسم، إضافة إلى شهادة تقنية عامة بعد إنهاء كل مادة. قضيت معظم عطلات نهاية الأسبوع في متابعة هذه الدورات، وقد استفدت منها كثيرًا على المستوى الفني والمعرفي.
أما بالنسبة لي، فكانت هذه الشهادات ذات قيمة معنوية بالدرجة الأولى، لأنها جزء من رحلة التعلم التي أحببت خوضها. لكن بالنسبة لزملائي في البرنامج، ومعظمهم في سن العشرين، فقد كانت شهادة التخرّج مفتاحًا لفرص وظيفية ممتازة برواتب مغرية في سوق العمل الخاص بالمحركات البحرية والميكانيكية.
يتمحور تخصصي الأكاديمي حول علم النفس التربوي «Educational Psychology»، مع تركيز دقيق على فرعي علم نفس النمو «Developmental Psychology» والتعلم «Learning». وكانت جميع المناهج التي قمت بتدريسها تهدف إلى استخلاص المعطيات والمفاهيم التي يوفرها علم النفس، وتوظيفها بفعالية في فهم الاحتياجات الفردية للمتعلم، ومن ثَم تصميم الخطة التعليمية التي تتوافق بدقة مع تلك المعطيات النفسية والتربوية.
كما قمت بتدريس مقررين متخصصين على مستوى الدكتوراه، وبما أن غالبية طلابي كانوا من الكفاءات المتميزة والطموحة، فقد كانوا يطلبون مني الإشراف على رسائلهم العلمية. وعلى الرغم من حجم الوقت الكبير الذي يتطلبه الإشراف الدقيق، كان من الصعب عليّ رفض طلبهم تقديراً لجديتهم.
كما تولّيتُ مسؤولية برنامج الماجستير في القسم لأكثر من عشر سنوات، وكانت غالبية رسائل الطلبة خلال تلك الفترة تحت إشرافي المباشر، مما منحني فرصة واسعة لصقل مهارات الباحثين وتوجيههم في مساراتهم العلمية.
كانت الدراسة ميدانية شارك فيها ستون طالبًا وطالبة في مرحلة البكالوريوس. قمتُ بقياس مستوى الحرمان العاطفي لديهم، سواء من الأب أو الأم أو من كليهما، وتبيّن أن نسبة الحرمان عند بعضهم كانت تتجاوز 90%، وهو رقم مرتفع يعكس شدة المعاناة العاطفية لدى هذه الفئة.
وبعد تقديم دورة تفاعلية حول ممارسة العفو «Forgiveness»، ظهرت نتائج لافتة:
• ارتفاع واضح في مستوى التفاؤل لدى المشاركين،
• انخفاض في معدلات الغضب والقلق النفسي،
• زيادة ملحوظة في قابلية المشاركين للعفو عن أحد الوالدين أو كليهما.
كانت هذه التجربة البحثية من أكثر المحطات أثرًا في مسيرتي، لأنها برهنت على أن العفو ليس قيمة أخلاقية فحسب، بل قوة علاجية تعيد بناء الإنسان من الداخل.
في البيئة الجامعية، كانت عملية التقييم السنوي للأساتذة والمحاضرين تركز بشكل أكبر على الأوراق البحثية المحكّمة كمعيار رئيسي لنيل الترقية والزيادة السنوية؛ حيث كان يُنظر إلى نشر كتاب واحد على أنه يعادل نشر ورقة بحثية واحدة. ولهذا، كان التوجه منصباً على زيادة إنتاج الأوراق البحثية. وكانت المشاركة في المؤتمرات العلمية تمثل استراتيجية فاعلة لمعرفة مناطق الضعف في الأوراق البحثية، ومن بعد المؤتمر كنتُ أقوم بمعالجة جوانب الضعف وإرسال المقال إلى الدوريات المحكمة.
أما بالنسبة للمشاريع المستقبلية، فأعمل حاليًا على كتاب من ثلاثة أجزاء يتناول مراحل الطفولة المبكرة والطفولة المتأخرة والمراهقة، مع الاستفادة من الهدي التربوي للرسول الأعظم ? في قوله: «لاعبه سبعًا، وأدّبه سبعًا، وآخه سبعًا». وإلى جانب ذلك، بدأتُ في كتابة مذكراتي الشخصية، استجابةً لرغبة بعض الإخوة الأعزاء الذين شجعوني على توثيق التجربة ومسيرتي العلمية.
لقد كان الاسم السابق للمعهد هو ”مركز دراسات معهد المستقبل“، وقد كان هذا الاسم يحمل غموضاً في دلالاته «كيف تجتمع كلمتا ”معهد“ و”مركز“؟»، كما أن كلمة ”المستقبل“ كانت توحي بأن المركز يعني حصراً بإجراء البحوث الاستشرافية. إضافة إلى ذلك، كان المعهد سابقاً جزءاً من شركة غير ربحية تدير مدارس في عدة ولايات، مما جعل التقديم على منح دعم الدراسات البحثية أمراً صعباً للغاية؛ نظراً لأن أحد الشروط الأساسية للحصول على التمويل هو أن تكون الجهة المتقدمة مستقلة ولها ميزانية خاصة بها.
ولحل هذه الإشكالية، تقدمنا بطلب لتسجيل المعهد كجهة مستقلة، وهي عملية استغرقت نحو عامين، وقد تحقق الاستقلال الكامل بحمد الله منذ ثلاث سنوات. ونتيجة لذلك، تغير الاسم السابق ليصبح الاسم الجديد معهد آداسترا للأبحاث «AdAstra Research Institute». وكلمة ”AdAstra“ كلمة لاتينية تعني حرفياً: ”إلى النجوم“، وهي رمزية بليغة تصف طموح المعهد في بلوغ آفاق معرفية أعلى، وتقديم بحوث ترتقي فوق المعتاد إلى ما يشبه ”التحليق نحو المستحيل“.
وينصب تركيزنا في المعهد حالياً على استقطاب باحثين عالميين من مختلف الدول، وقد عُقد مؤتمر المعهد السنوي بعد غياب فرضته جائحة كورونا وفترة الانتقال الإداري، بحضور باحثين وباحثات من دول متعددة. كما يجري الإعداد حاليًا لمؤتمر العام القادم بتاريخ 5 يونيو 2026، مع طموح لرفع مستوى المشاركة كما ونوعًا.
أما مساهمتي المجتمعية الأخرى، فكانت لجمعية هيومانيتيز آيوا «Humanities Iowa»، وهي منظمة تُعنى بالفعاليات الثقافية، خاصة في المناطق والمدن الصغيرة وبين الأقليات التي لا يصل صوتها أو إنتاجها الثقافي إلى العامة، وقد خدمت فيها لمدة ثلاث سنوات. كانت هذه تجربة فريدة علمتني الكثير، وعلى رأسها اكتشاف سر نجاح العمل الجماعي هنا، وهو الإيمان الحقيقي بالصالح العام وترجمته عملياً من خلال التفاني في الخدمة.
1. الكفاءة الذاتية مفتاح الإنجاز: لا بد للطالب أن يتحلى بثقة وإيمان مطلقين بقدرته على التعلم، وهو ما يُعرف في علم النفس التربوي بمصطلح ”الكفاءة الذاتية“ «Self-Efficacy»، التي وضع أسسها عالم النفس ألبرت بندورا Albert Bandura، وعرفها بأنها اعتقاد الإنسان بقدرته على تحقيق مهامه وأهدافه بنجاح. يجب على المرء ألا يضع حدوداً لقدراته العقلية التي منحها إياه الخالق، لكيلا يكون أسيراً للقيود التي فرضها على نفسه؛ إذ أن هذه القيود تنتج الإعاقة الحقيقية التي تحول دون التعلم والانتصار على التحديات مهما كان حجمها أو شكلها.
2. قوة الإرادة وكُرة الثلج: بناءً على ما سبق، يستطيع الإنسان تعلم أي شيء واكتساب مهارات إضافية لم تكن في حسبانه إذا توفرت لديه الرغبة الجانحة، والثقة المطلقة بالقدرات الذاتية، والإرادة القوية على ترجمة هذه الرغبة والثقة إلى عمل ملموس. وهذا العمل بدوره يضاعف الثقة والإرادة، فتتشكل ”كرة الثلج“ التي تبدأ صغيرة، ولكن حركتها النشطة تجعلها تكبر وتزداد قوتها وتأثيرها.
3. تحويل الأخطاء إلى مادة للتطوير لا إلى جلد الذات: بعد أي أداء غير موفق، من الطبيعي أن نشعر بالخيبة. لكن غير الطبيعي هو البقاء في دائرة جلد الذات والشعور بالفشل. النظرة الناضجة للأخطاء تجعل منها فرصًا ذهبية للتطوير. تحليل الأداء، وتشريح مصادر الخلل، والمحاولة مرارًا… هذا هو الطريق نحو تحقيق أداء يُدهش صاحبه قبل أن يدهش الآخرين. كثير من المبتكرين وصلوا لنتائجهم بعد محاولات لا تُعدّ، ليكتشفوا أن الفشل كان البوابة الأولى للإبداع.
4. تحدي السردية الذاتية المهزومة: شهدتُ زملاء في دراساتهم العليا ينسحبون من برامج الدكتوراه إثر تقييم واحد ظنوه ”وثيقة هزيمة“، ولم يدركوا أنهم وقعوا أسرى لسردية اختلقوها عن أنفسهم. ما لم يتجاوز الإنسان فكرة أنه ”فشل“، فلن يتعافى منها ولو مرّت سنوات طويلة. وحين يكتشف كنز قدراته الكامنة، سيدرك أن المستحيل لم يكن سوى وهم مؤقت.
5. المثابرة في القراءة الهادفة: على المرء المثابرة على القراءة، وخاصة لتجارب الناس الناجحين والتأسي بخطواتهم. في عصرنا الحالي، يُسرق انتباهنا بطوع إرادتنا من قبل أدوات التواصل الاجتماعي، لكن المستخدم الذكي لأدوات عصر الثورة المعلوماتية هو من يوجه طاقته نحو ما يزيد اطلاعه، ويضيف إلى علمه ومهاراته.
6. التعلم والتعليم أمانة ومسؤولية متلازمتان: إخلاص النية في التعلم والتعليم يمنح كلًّا منهما قيمته الحقيقية. المعلّم قبل أن يكون موجّهًا، يجب أن يكون طالبًا نَهِمًا للمعرفة، يضيف إلى مهاراته باستمرار ويتعلم من الجميع بلا استصغار للمصادر. الفكرة الحكيمة قد تأتي من كتاب مرجعي، وقد تأتي من طفل… المهم هو الاستعداد لتلقّيها.
7. العقلية النقدية في عصر المعلومات: لا بد، وخاصة في عصرنا حيث تهب علينا رياح - بل عواصف - المعلومات من كل جانب، أن نتحلى بعقلية نقدية تحاكم المعلومة وتُحللها وتُمحصها قبل إعطائها تأشيرة دخول دائمة إلى ملفاتنا المعرفية والعقلية.
1. استثمار الوقت والمراكمة المعرفية: لا بد من استغلال الوقت واستثماره في التعلم دون تفريط؛ فالعلم الدقيق والمهارات المبهرة لا تنتج إلا عبر عملية تراكمية. فكلما بدأ الإنسان في السعي وراء تحقيق أهدافه المحددة مبكراً، كلما تمكن من مراكمة معرفته ومهاراته بكفاءة أعلى.
2. أهمية تحديد الأهداف المبكرة: في فترة الطفولة وحتى مرحلة المراهقة، تكون الأهداف ”زئبقية“ وغير مركزة، وهذا أمر طبيعي في مرحلة اكتشاف الرغبات والشغف. ولكن إدراك الهدف أو الأهداف مبكراً يجعل سعي الشاب أكثر تركيزاً لنيل ما يطمح إليه. وهذا لا يعني أن الأهداف المرسومة هي قدر محتوم، بل قد تتغير؛ لكن تجربة الإنجاز والوسائل المتبعة في تحقيقه تبقى آلية راسخة يمكن استخدامها لرسم أهداف جديدة. فما نوطن نفسنا عليه من عمر مبكر يتحول إلى ملكة تعيننا في مشوار الحياة، وتخدمنا في تحقيق النجاحات. وبالطبع، فإن المحيط العائلي والمدرسي والجو العام الإيجابي هي عوامل مساعدة ومحفزة ومكملة لإرادة الشاب.
3. اغتنام الدورات لتعزيز الثقة: استغلال فرص الدورات المتاحة لاكتساب مهارات جديدة أو إضافية والمثابرة على ذلك، يزيد بشكل كبير من ثقة الشاب في نفسه، ويفتح آفاقه نحو حقول العلم والمعرفة الرحبة.
4. الحصانة ضد السلبية وحق التقييم الذاتي: عدم الاكتراث بالمحبطين أو السلبيين، والتسلح بالثقة في النفس، والشعور الدائم بأنك تتغير وتنمو وترتقي كل يوم، هي أساس النمو. عدم الخضوع لأقوال السلبيين أمر ضروري؛ لأنه يسمح لك بممارسة حقك في تقييم ذاتك بنفسك، وألا تدع الآخرين يقيمونك بسلبيتهم وقصر نظرهم.
5. اكتشاف القدرات الهائلة والطموح العالي: أيها الشاب، أنت تختزن الكثير من القدرات الكامنة والهائلة والتي تحتاج إلى إيمانك المطلق بوجودها، والبحث عن سبل اكتشافها واستعمالها. ارسم أهدافاً عالية لأنك أهل لذلك، وكن في مستوى الطموح والتحدي.
6. القراءة والكتابة بوابة الانتقال من مستهلك إلى منتج للمعرفة: القراءة اليومية تُنمّي الفكر، والكتابة تعمّق الفهم وتبني قدرة الشاب على التعبير والإبداع. ومع الوقت يصبح قادرًا ليس فقط على استهلاك المعرفة، بل على الإضافة إليها وإثرائها.
7. البحث عن الموجهين الذين يريدون لك الخير: من الضروري أن يحيط الإنسان نفسه بمن يرشده ويوجهه ويشجعه على الصعود. فهؤلاء موجودون دائمًا حوله، وما عليه إلا أن يقترب منهم ويستفيد من خبراتهم.
في جامعتنا — شأنها شأن معظم، إن لم يكن كل، الجامعات في الولايات المتحدة الأمريكية — تتعدد أوجه الخدمة الأكاديمية وتصنيفاتها:
• الخدمة الداخلية: وتتمثل في المشاركة في لجان تابعة للقسم الأكاديمي، ولجان خاصة بالكلية، ولجان على مستوى الجامعة ككل.
• الخدمة الخارجية والتخصصية: وتُتاح عبر اللجان أو الرابطات العلمية خارج الجامعة، كشغل منصب مُحكّم «Peer Reviewer» في دورية علمية، أو كناشط في ترتيب وإقامة المؤتمرات، أو كشغل منصب رئاسة تحرير مجلة علمية، أو إدارة مركز دراسات وبحوث.
• الخدمة المجتمعية: وهي نوع منفصل يُعنى بالمساهمة في خدمة المجتمع خارج الإطار الأكاديمي المباشر.
لقد بدأ عطائي المجتمعي المباشر في ولايتي آيوا ومينيسوتا قبل التقاعد، وسأستمر فيه بمشيئة الله:
في مدينتنا، توجد جمعية إنسانية تُعنى ببناء البيوت وبيعها برأس مال التكلفة للعائلات المحتاجة، وتضمن لهم قروضاً ميسرة بفائدة قليلة جداً. تقوم فلسفة الجمعية على مبدأ ”ما يُعطى مجاناً لا يُقدّر“، ولهذا يجب على العائلة أن تشعر بأن المنزل ملكها، وتتبنى مسؤولية دفع القسط الشهري المنخفض؛ وهذا يحفظ لها كرامتها. ويُطلب من كل عائلة تحصل على منزل من هذه الجمعية التطوع بعدد من الساعات «400 ساعة تقريباً» لكي تستشعر العائلة قيمة التطوع وخدمة الآخرين.
مساهمتي في هذه الجمعية الإنسانية مبنية على تبني فلسفتها والمشاركة الفعلية في عملية البناء، حيث تتوفر لديّ مهارات واسعة في البناء والسباكة وأعمال الكهرباء وغيرها. ورغم أنني كنتُ أظن عملي التطوعي ذا اتجاه واحد، أي أنني أُعطي وقتي ومهاراتي، إلا أنني رأيتُ بعد أول ساعات تطوع بأنني آخذ أكثر مما أُعطي؛ إذ أحصد مشاعر الرضا والفخر والاعتزاز بالمشاركة في بناء مأوى لعائلة محتاجة، وأكتسب مهارات جديدة من متطوعين آخرين لديهم مهارات احترافية طويلة، يقود كل مجموعة منهم رئيس شركة إنشاءات خبير. لقد تعرفت على الكثير من أهل المدينة، الأمر الذي جعلني أكثر وعياً بعالم التطوع المجتمعي وإقبال الناس عليه والتفاني فيه؛ فأستطيع القول الجازم بأن خدمة المجتمع متأصلة في جينات هؤلاء القوم.
في ولاية مينيسوتا، هناك جمعية خيرية تقوم بتلقي التبرعات بالأغراض المستعملة والجديدة وبيعها بأسعار معقولة. وهذه الخدمة ذات فروع متشعبة:
• للمتبرعين: تتيح لهم التخلص من الأثاث وغيره بطريقة مسؤولة، بدلاً من رميها في القمامة ودفع قيمة التخلص منها.
• للمشترين: تمكنهم من اقتناء ما يحتاجونه بأسعار معقولة دون أن يشكل ذلك عبئاً على ميزانية العائلة.
• للجمعيات المحلية: يُصرف الريع الناتج عن البيع لدعم جمعيات محلية عدة، منها جمعية تشتري الثياب الشتوية وتتبرع بها للأطفال بالشراكة مع المدارس، وجمعية توفر المساعدة لبيوت حماية النساء اللاتي يهربن من بيوتهن بسبب العنف الأسري، حيث توفر أماكن إقامة سرية وتقدم الوجبات والرعاية النفسية، وتمكّن المرأة لاكتساب مهارات تؤهلها للحصول على وظيفة والاستقلال المادي.
مساهمتي في هذه الجمعية تتمثل في استقبال التبرعات من أثاث وتحف وأدوات منزلية وكتب وغيرها. ويتطلب العمل أحياناً تصليح بعض الأثاث وتجهيزه للبيع، أو تسعير الأشياء الجديدة، ومساعدة الزبائن في شحن مشترياتهم. وأقوم بالمساهمة يوماً أو يومين في الأسبوع وفق جدول مرن للغاية.
• النشاط الثقافي: تعرفت قبل شهرين على جمعية جديدة تقوم بتوعية الناس عبر القيام بنشاطات ثقافية أسبوعية وتدعو إليها محاضرين ومحاضرات من داخل وخارج المدينة.
• حفظ التراث: لدي رغبة في التطوع في جمعية أخرى في مينيسوتا قريبة من بيتنا الصيفي، وهي عبارة عن مدرسة لتعليم الحرف اليدوية لحفظ التراث لسكان المنطقة الأصليين «الهنود الحمر» والمنحدرين من أصول إسكندنافية. هذه المدرسة لديها كتالوج غني بالدورات «كبناء الكوخ الخشبي، الحدادة، النجارة، حياكة الجوارب الصوفية»، ولكن رسومها ليست رخيصة، والإقبال عليها كبير. وقد سجلت اسمي في قائمة الراغبين في التطوع، والقائمة طويلة، وأتمنى أن أكون محظوظاً باتصالهم الهاتفي قريباً.
• العطاء عن بعد: كما لدي مشاركات مجتمعية عبر مبادرات ثقافية وبحثية عن بعد في الوطن أيضاً والحمد لله، وآمل أن أستطيع القيام بالمزيد في هذا المجال.
ندرك تمامًا أن المهمة ليست سهلة، لكن تبسيط الفكرة يساعد في إيضاح جوهر ما نطمح إليه: فهم المهارات التي يحتاجها الطالب للانتقال السليم بين مراحل التعليم المختلفة، بدءًا من الروضة، مرورًا بالابتدائية والمتوسطة والثانوية، وصولًا إلى الجامعة، ثم إلى سوق العمل. هذه الانتقالات ليست عابرة؛ إنها مراحل حاسمة تحتاج إلى مهارات تعلم، ومهارات اجتماعية، وقدرة على التكيف والتواصل، ليكون الطالب مستعدًا لخوض كل مرحلة بثقة وكفاءة.
ومن بين الأمنيات التي نعمل عليها أيضًا، إعداد جيل جديد من الباحثين ينتمون إلى المعهد منذ سنوات دراستهم العليا، ليترقّوا تدريجيًا من باحثين مبتدئين إلى أعضاء فاعلين في مجتمع البحث العلمي. وقد بدأنا بالفعل تنفيذ برنامج المتعلم الذي يستهدف طلاب السنوات الثانوية الأخيرة من العائلات المحتاجة والأقليات. وبعدها، نقوم بإجراء مقابلات شخصية لاختيار المرشحين، ثم نساعدهم في التقديم للجامعات، ونوفر لهم مرشدين متخصصين خارج الجامعة لمتابعة مسيرتهم العلمية. فإذا قرر الطالب التخصص في الكيمياء، نبحث عن بروفيسور كيمياء أو مهندس في هذا المجال يتناسب مع تطلعات الطالب. كما نقوم بتقديم ملف كل طالب وطالبة إلى جمعيات وأفراد معروفين بدعمهم المالي لمثل هذه الحالات، ونوفر المبلغ اللازم لرسوم الجامعة والكتب والمساعدة المالية الشهرية لكي يتفرغ الطالب بشكل كامل للدراسة.
وطموحنا أن يتوسع هذا البرنامج ليصل إلى مدارس أكثر، ويخدم عددًا أكبر من الطلاب، خصوصًا أولئك الذين قد يحرمهم الفقر من فرصة التعليم الجامعي. فكثير من هؤلاء يكون أول فرد من أسرته يحظى بفرصة الالتحاق بالجامعة، وهذا بحد ذاته خطوة تُغيّر «transformative» مستقبل الأسرة بأسرها.
إن جوهر هذه الأمنية هو تذليل الصعوبات أمام من يريد أن يتعلم، فالحاجز المالي لا ينبغي أن يكون سدًّا يحول دون تحقيق الطموحات. وأنا على يقين بأن هذه الأحلام ستتحقق، لأن طبيعة الأحلام أنها تتطور وتنمو ولا تبقى جامدة.
أشكركم على أسئلتكم واهتمامكم، وأتمنى أن يجد كل من يقرأ هذه السطور ما ينفعه ويُلهمه. مرة أخرى، أشكركم جزيل الشكر.














