أكوش… قصة قط منزلي في مواجهة برودة العصر الرقمي
قبل أيام قليلة تعرضت أسرتي الصغيرة لحادثة حزينة في البيت تأثرنا بها جميعاً، حين مات قطنا المنزلي الأليف بعد صراع لم يستمر طويلاً مع المرض، عاش معنا لعشر سنواتٍ تقريباً. لم يكن مجرد حيوانٍ أليف في البيت، بل كان بمثابة فرد من العائلة، يشاركنا تفاصيل حياتنا اليومية، ويمنح البيت دفئاً لا تصنعه الآلات ولا الشاشات، عاش القط حياته كاملة بصحة جيدة ملؤها الحيوية والخفة والطرافة. كنت أطلق عليه أسماء ملفتة ومضحكة نتيجة لتصرفاته الطريفة، مثلاً كان شديد الخوف من أي صوت يصدر حتى صوت خشخشة الأكياس، وكنت أصرخ عليه «يا مرعوب»، وكان يمتاز بتصرفات طريفة وغبية غير متوقعة فأصرخ عليه «يا معتوه» وسط ضحكاتنا وسعادتنا به.
رحيله قبل أيامٍ قليلة أثار في ذهني سؤالاً وجودياً: أين تقف مشاعرنا الإنسانية في عصرٍ رقمي يزداد برودة؟
مرض ”أكّوش“ قبل أسابيع، وبدأت صحته تتدهور تدريجياً حتى فارق الحياة. كان المشهد مؤلماً، إذ بدأنا بالقلق العميق حوله، نحاول التخفيف عنه، لكننا كنا مدركين أن النهاية قريبة. حين مات، لم يكن الحزن مجرد رد فعلٍ عاطفي تلقائي، بل كان إعلاناً عن عمق العلاقة التي تنشأ بين الإنسان والكائنات التي تعيش معه. بكينا عليه ليلتها جميعاً بحرارة وأسى وشعرنا بألم الفقد والإحساس بالفراغ في القلب الذي يقع بعد فقد الأحبة، وهذا الشعور ليس مستغرباً، لأن العشرة الطويلة تصنع روابط لا تُقاس بالمنطق.
بات عالمنا اليوم رقمياً بامتياز وغابت فيه المشاعر وتلاشت فيه العواطف وبردت فيه العلاقات، حتى صار من المعتاد أن تختزل فيه المشاعر في رموزٍ رقمية أو رسالة سريعة. كان وجود ”أكوش“ بمثابة تذكيرٍ لنا بأن العاطفة الحقيقية لا تحتاج إلى وسائط. كان يقترب منا حين نجتمع في الصالة حين مشاهدة التلفاز أو تناولنا وجبة الطعام، ويجلس بجوارنا حين القراءة أو تصفح الجوال، وكأنه يعلن لنا أن الحضور الصامت أحياناً أبلغ من آلاف الكلمات. لقد أثبت لنا أن وجوده بروحه المرحة واللطيفة نوع من دفء الحياة وإشارة لوجود روح تتحرك في المكان.
رحيله فتح في ذهني باب التأمل في هشاشة الروابط الإنسانية في عصر التقنية. كيف يمكن لقطٍ صغيرٍ أن يعلّمنا أن الحب والألفة والمشاعر الفياضة ليس ترفاً، بل ضرورة؟ وكيف يمكن لفقده أن يكشف لنا أن العاطفة، مهما بدت بسيطة، هي ما يمنح الحياة معناها؟ في زمنٍ يتسابق الجميع نحو الآلة والذكاء الاصطناعي.
يظل كائنٌ ضعيفٌ مثل ”أكوش“ قادراً على أن يوقظ فينا إنسانيتنا، ويذكّرنا بأننا لسنا آلات، بل بشرٌ نحتاج إلى الحنان.
سنجتمع في الأيام القادمة حول ذكراه، نستعيد مواقفه اللطيفة، سنضحك ونحن نتذكر حركاته ونشاهد مقاطعه الطريفة في هواتفنا، وسنذرف الدمع لأننا مدركون أن تلك الأيام لن تعود. لكن في داخل هذا الحزن يكتنز معنى عميق: أن الحب الذي منحناه له لم يذهب سدى، بل ترك فينا أثراً سيبقى معنا. إن موت ”أكوش“ ليس مجرد فقدانٍ لحيوانٍ أليف، بل هو رمزٌ لأهمية العاطفة في زمنٍ يزداد قسوة. سيجعلنا نتمسك أكثر بما تبقى من إنسانيتنا، ونرفض الذوبان في عالمٍ تحكمه الأرقام والبرمجيات والماديات. كنت سابقاً أنتقد كثرة انتشار اقتناء الحيوانات المنزلية وما يصحبها من مشاكل، ولكني بعد التأمل في الموضوع، صرت أرى بأنه قد يكون هذا الاقتناء المحموم على علّاته ومشاكله، درعاً وحصنا ضد تغوّل الآلة وطغيان التقنية وتلاشي المشاعر الإنسانية.
في الختام، ربما كان رحيله رسالةً لنا جميعاً: أن نعيد الاعتبار للمشاعر، أن نحتفي بالحب مهما كان صغيراً، وأن ندرك أن العاطفة هي ما يجعلنا بشراً في مواجهة طغيان التقنية. إن قصة ”أكوش“ ليست مجرد حكاية أسرةٍ فقدت قطاً، بل هي شهادة على أن العاطفة، في زمنٍ يزداد برودة، تظل آخر حصون الإنسانية.













