آخر تحديث: 13 / 12 / 2025م - 4:55 م

حين يتحول الأب من سندٍ إلى متفرّج

هاشم الصاخن *

يخطئ بعض الآباء في طريقة منح أبنائهم القوة والاعتماد على النفس، فبدلًا من أن يكون الأب سندًا ومرشدًا، يتحول بدون قصد إلى متفرج على تجارب لا يزال الابن يجهل دهاليزها. يتركه يواجه مواقف أكبر من عمره، ثم يفسر ذلك بأنه ”يصنع منه رجلًا“. وكأنَّ البطولة تُصنع بأن نُلقي الطفل في البحر، ثم نتباهى بأنَّه ”تعلَّم السباحة وحده“، متناسين أنَّ السقوط في الماء لا يعني بالضرورة تعلم السباحة؛ بل قد يعني الغرق بصمت.

وتتكرر هذه الممارسات في الحياة اليوميَّة منذ الطفولة وحتى الشباب، فيدفع الأب ابنه في الصغر إلى مواجهة مشاجرات بدعوى تقوية شخصيته، ثم يتركه في مرحلة الشباب يتخذ قرارات مالية أو اجتماعيَّة معقدة بحجة أنه سيتعلَّم من خطئه.

ومن أكثر الصور وضوحًا أن يرسل الأب ابنه للدراسة في مدينة أخرى بحجة الاعتماد على النفس، فيتركه وحيدًا يواجه مصيره فرديًا من حيث السكن، وتدبير طعامه واحتياجاته، ومواجهة غربته، بينما هذا الشاب قبل عام أو أقل كان يعيش تحت سقف والده، ولم يُعلَّم حتى أبسط مهارات الحياة اليومية التي تتناسب مع المرحلة. فجأة يتحول من شاب لا يعرف سوى غرفته ومدرسته ودفء أسرته، إلى غريب في مدينة مجهولة، يحاول أن يتدبر طعامه، ويبحث عن سقف يأويه، ويعيش قلق المصاريف والوقت والغربة.

عند هذه النقطة، يبرز السؤال الذي لا بد أن يطرحه كل أب على نفسه: هل يحق لي أن أقف متفرجًا على ابني وهو يواجه تجربة لا يملك أدواتها، ثم أصف ذلك بأنه تدريب على الرجولة؟ متى يكون من واجبي أن أتواجد معه وأرشده، ومتى يكون غيابي ضعفًا في التربية لا قوة فيها؟ ومتى أصل إلى المرحلة التي يمكنني أن أقول فيها بثقة: الآن يمكنه الاعتماد على نفسه؛ لأنني قد هيأته لهذه المسؤولية خطوة بخطوة، لا فجأة وتحت شعار القوة؟

نعم، على الأب أن يكون مربياً لا متفرجاً. فدوره ليس أن يلقي بابنه في مواجهة مصيره، ثم يقف بعيدًا منتظرًا النتيجة؛ بل أن يهيئه قبل ذلك عبر التربية والتوجيه وتعليمه مهارات الحياة، وشجاعة القلب وتحمل المسؤولية، وكيف يتخذ القرار الواعي؛ لأنَّ الابن في النهاية هو من سيتحمل تبعات اختياره.

ولا ينبغي أن يتحوَّل دعم الأب إلى اعتماد دائم يجعل الابن عاجزاً عن اتخاذ قرارات بسيطة، كما لا ينبغي أن يتحول الانسحاب المفاجئ إلى قسوة تُلبس بثوب الرجولة. فالتربية ليست أن نرافق أبناءنا حتى يفقدوا استقلالهم، وليست أيضًا أن نتركهم بلا إعداد ثم نتباهى بأننا صنعنا منهم رجالًا. وإذا جعلنا الابن يواجه مصيره وحده، فعلينا حينها أن نتحمل نتائج ذلك، لا أن نحمّله الوزر وحده.

أحيانًا يسمع الأب أن ابنه وقع في مشكلة ما؛ قد تكون مالية، أو خلافًا مع صديق أو مجموعة، فيأتي شخص يخبره بالأمر، فيجيب الأب بجملة يرددها كثيرون: ”روح تفاهم معاه، أنا مالي شغل“. يقولها وكأنه يعلن انسحابه التام، باعتبار أن الابن هو من تسبب بالمشكلة، وعليه أن يتحمل نتائجها بمفرده. لكن هل هذا التصرف صحيح تمامًا؟ هل هو تربية على القوة فعلًا، أم تخلٍ تحت شعار القوة؟

نعم، إن كان الابن قد تكرر منه الخطأ مرة بعد أخرى، واستنزف النصيحة والتوجيه، فقد يكون من المناسب أن يتحمل تبعات اختياراته، لكن هذا لا ينطبق على كل الحالات ولا على كل الأبناء. فإذا كان الابن عاقلًا في سلوكه، ومحترمًا في تصرفاته، ولم يكن ممن يفتعل المشكلات باستمرار، فليس من التربية أن نتشدد أمامه ونتركه وحده بداعي أن ”الولد لازم يشتد عوده ويصير رجال“.

وهنا يختلط الأمر على كثير من الآباء في هذه الجوانب الحساسة. قد تمر مثل هذه القضايا مرورًا عابرًا دون توجيه، لكن آثارها بعيدة وقاسية، خاصة حين يشعر الابن بأنَّه بلا سند، وبأن وجود والده أو عدمه سواء.

ويضيف بعض الآباء مبررات تُقال على الدوام: ”إحنا كنا صغار، وأهلنا يرمونا في المسؤوليات، ويتركونا نمرض ونتعب ونتعلم بمفردنا، وصارت لنا شخصية قوية“، وهذا كلام قد يحمل شيئًا من الصحة في جزء منه، لكنه لا يعني صحة كل ما فعله الآباء في الماضي. فلكل زمن ظروفه، ولكل مرحلة معطياتها، وقد أخطأ بعض الآباء قديمًا كما يخطئ بعضهم اليوم، والمفترض أن نتعلم من أخطاء الماضي لا أن نكررها. فالقوة ليست أن نترك أبناءنا يسقطون كي يعرفوا كيف يقفون؛ بل أن نعلّمهم كيف يقفون قبل أن يسقطوا. والرجولة لا تُبنى بترك الابن وحيدًا وسط المشكلات، بل بتعليمه كيف يتعامل معها وهو مطمئن لوجود من يرشده.

وفي النهاية، لسنا مطالبين بأن نحمل أبناءنا في كل خطوة، ولا أن نتركهم وحدهم يواجهون الحياة. فالقوة الحقيقية لا تُصنع حين نُفلت أيديهم فجأة، ولا حين نُمسك بها طوال الطريق، بل حين نعلّم أبناءنا كيف يختارون، وكيف تحمّلون قراراتهم بعد أن نمنحهم ما يحتاجون من توجيه ومعرفة.

نرافقهم وهم يتعلّمون، ونسمح لهم بالتجرِبة، ونترك لهم القرار، لكن لا نتركهم للضياع. نراقب من بعيد كي لا يسقطوا قبل أن يتعلموا الوقوف.

وصحيح أن أبناءنا يختلفون في قدرتهم على تدبير أمورهم وحل مواقفهم، فلكل منهم شخصية ونضج ومهارة. لكن مهما بلغت قوة أحدهم، فإن شعوره بوجود من يقف إلى جانبه يمنحه طمأنينة لا تصنعها التجارب وحدها. فبهذه الطريقة تُبنى الشخصية، وتُصنع الرجولة… بلا رميٍ مفاجئ، ولا حمايةٍ مبالغٍ فيها.

سيهات