آخر تحديث: 13 / 12 / 2025م - 4:55 م

رؤية السعودية بلغت عشراً: خمسٌ ”نفطية“ عِجاف تتخللها تسعٌ ”غير نفطية“ سِمان

الدكتور إحسان علي بوحليقة * صحيفة مال

الاقتصاد ليس ظاهرة مستقلة عن النسيج الاجتماعي، فهو ناتج عن تدافع المجتمع وحراكه، ولذا فإن ما يُحتفى به هو أن الرؤية 2030 تحقق مستهدفاتها لتعزز وضع المواطن والمواطنة، فهما في صدارةِ أولويات الحكومة، كما صرح بذلك سمو ولي العهد عند إعلان ميزانية عام 2026، وأن عام 2026 يمثل بداية ”مرحلة تعظيم التأثير“ في رؤية 2030.

أقر مجلس الوزراء السعودي الميزانية العامة لعام 2026 بإنفاق إجمالي يبلغ 1.313 تريليون ريال سعودي (حوالي 350 مليار دولار أمريكي)، وإيرادات متوقعة 1.147 تريليون ريال، مع عجز مالي يبلغ 165 مليار ريال (3.3% من الناتج المحلي الإجمالي)، مخصص منها 533 مليار ريال (41 بالمائة) للخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية.

تدور رؤية 2030 حول تحسين حياة سكان المملكة العربية السعودية، وتعدّ ركيزة ”مجتمع حيوي“ الأساس الذي يُبنى عليه الاقتصاد والدولة الطموحة، وفقاً للوثيقة الرسمية للرؤية الصادرة في 2016 والتقارير السنوية لعام 2024. وتسعى مبادرات هذه الركيزة إلى بناء مجتمع يتمتع فيه الجميع بحياة غنية ومُرضية، من خلال تعزيز الصحة، الثقافة، الترفيه، الرياضة، والحج والعمرة، بالإضافة إلى زيادة متوسط العمر المتوقع وإدراج مدن سعودية ضمن أفضل 100 مدينة عالمياً في جودة الحياة. وعند إطلاق ولي العهد برنامج جودة الحياة بهدف (تحسين نمط حياة الفرد والأسرة، وبناء مجتمع ينعم أفراده بأسلوب متوازن، من خلال تهيئة البيئة اللازمة لدعم واستحداث خيارات جديدة تعزز مشاركة المواطن والمقيم في الأنشطة الثقافية والترفيهية والرياضية). ومن المؤشرات ذات الصلة بالبرنامج زيادة متوسط العمر المتوقع من 74.8 سنة في 2016 إلى 80 عاماً بحلول 2030 (ارتفع إلى 79.7 عاماً في العام 2025)، وارتفاع نسبة الممارسين للرياضة أسبوعياً من 13 بالمائة إلى أكثر من 20 بالمائة، وتجاوز عدد الزوار السياحيين 116 مليون سائح من داخل وخارج السعودية في 2025، بإنفاق بلغ 275 مليار ريال. وتبرز مساهمة هذا البرنامج في الحراك الاجتماعي - الاقتصادي أن القطاعات المستهدفة في هذا البرنامج (ومنها الثقافة والسياحة والرياضة والترفيه والهوايات والتصميم الحضري) ساهمت في العام 2024 بقيمة 74.5 مليار ريال في الناتج المحلي الإجمالي، وساهم في إيرادات غير نفطية قدرها 17.8 مليار ريال، واستقطب استثمارات خاصة قدرها 21.6 مليار ريال، ووفر نحو 370 ألف وظيفة، وفق التقرير الصادر عن برنامج جودة الحياة، تحقق ذلك عبر تنفيذ 173 مبادرة مولها ورعاها البرنامج.

ولا يخفى أن المجتمع الحيوي هو الأساس للازدهار الاقتصادي، فقد ساهم هذا الحراك المتمحور حول المواطن، في تحقيق فرق جوهري في انخفاض معدل البطالة إلى 7% في 2024 (متجاوزاً الهدف بسنوات)، وزيادة ملكية المنازل بين الأسر السعودية إلى أكثر من 60%، وارتفاع عدد المتطوعين إلى أكثر من مليون، بالإضافة إلى إدراج 8 مواقع تراثية سعودية في قائمة اليونسكو، الأمر الذي ساهم في تحويل المشهد الاجتماعي - الاقتصادي في السعودية، مع التركيز على تنويع الاقتصاد وتعزيز الشمول الاجتماعي، بأن ارتفعت مساهمة القطاع غير النفطي في الناتج المحلي الإجمالي إلى حوالي 56% بحلول 2025 (مقابل حوالي 40% في 2016)، مع نمو الناتج المحلي الإجمالي 4.4 بالمائة للعام 2025، وارتفاع الإيرادات غير النفطية إلى أكثر من 40 بالمائة من إجمالي الإيرادات الحكومية من خلال إصلاحات ضريبية والخصخصة. اجتماعياً، ساهمت الرؤية في تمكين المواطنين وفي تقليل الفجوة، حيث تضاعفت مشاركة المرأة في قوة العمل من 17.4 بالمائة في 2017 إلى 34.5 بالمائة بحلول 2025، مع احتلال النساء نسبة متزايدة من المناصب الإدارية، مما عزز الدخل الأسري وتمكين المرأة مجتمعياً، وزادت تغطية الرعاية الصحية إلى 94.7 بالمائة في العام 2025، ما مكن من إضافة آلاف الأسرة الطبية وتحسين وصول السكان إلى الخدمات، وارتفعت مساهمة القطاع الصحي في الناتج المحلي الإجمالي إلى 5 بالمائة.

ولا استقرار اقتصادي بدون استدامة مالية، فكيف أضاف نمو الإيرادات غير النفطية الاستدامة المالية للميزانية السعودية؟ ساهم نمو الإيرادات غير النفطية بشكل كبير في تعزيز الاستدامة المالية للميزانية السعودية، من خلال تقليل الاعتماد على الإيرادات النفطية المتقلبة وتوفير مصادر دخل أكثر استقراراً واستدامة، وفقاً لتقارير وزارة المالية السعودية وصندوق النقد الدولي. منذ إطلاق رؤية 2030 في 2016، ارتفعت الإيرادات غير النفطية من حوالي 166 مليار ريال (أقل من 30 بالمائة من إجمالي الإنفاق) إلى 501 مليار ريال في العام 2025، مقابل 590 إيرادات نفطية لذات العام؛ مما مكّن من تغطية نسبة أكبر من الإنفاق الجاري والتنموي دون الحاجة إلى السحب من الاحتياطيات أو زيادة الدين العام بشكل مفرط؛ بل الالتزام باستغلال الفسحة المالية التي تتمتع بها المملكة لتعزيز الإنفاق الاستثماري لزيادة سعة الاقتصاد وتمكين القطاع الخاص من الاستثمار في المشاريع الإنتاجية. هذا النمو، المدعوم بإعادة هيكلة المالية العامة وتنويع مصادرها عبر تنمية الإيرادات الضريبية مثل ضريبة القيمة المضافة (15 بالمائة) ورسوم أخرى (مثل رسوم الأراضي البيضاء)، ساعد على ضبط عجز الميزانية ليبقى في حدود 3 بالمائة إجمالاً، ودعم الاحتياطيات الحكومية عند مستويات آمنة (نحو 390 مليار ريال نهاية 2025 وفق تصريح وزير المالية).

أدى هذا التنويع إلى تعزيز المرونة المالية أمام تقلبات أسعار النفط، حيث غطت الإيرادات غير النفطية جزءاً أكبر من الإنفاق التشغيلي (مثل الرواتب والخدمات)، مما سمح بتوجيه الإيرادات النفطية نحو الاستثمارات التنموية والمشاريع الكبرى ضمن رؤية 2030، كما بين تقرير صندوق النقد الدولي لعام 2025 بأن تعزيز الإيرادات غير النفطية يقلل العجز الأولي غير النفطي بنسبة 8.4 بالمائة من الناتج غير النفطي بحلول 2029، ويحافظ على الدين العام عند مستويات منخفضة (حوالي 32.7% من الناتج في 2026). في ميزانية 2026، وهكذا تساهم الإيرادات غير النفطية في نمو الإيرادات الكلية بنسبة تتجاوز 5 بالمائة، مما يدعم: (1) الاستمرار في اتباع سياسة إنفاق توسعية مستدامة (1.313 تريليون ريال إنفاق) دون زيادة كبيرة في العجز، (2) يحد تأثير مخاطر الصدمات الخارجية على الاقتصاد المحلي. وهذا يعني جدوى الاستمرار في الإنفاق التوسعي ولا سيما الرأسمالي، أخذاً في الاعتبار أنه سينعكس تحسناً في القدرة التنافسية لاستقطاب الاستثمارات وتنمية الصادرات، بما يعني مزيداً من الأنشطة الاقتصادية التي تعزز النمو وبالتالي تزيد إيرادات الخزانة العامة. وعلى مستوى النتائج، فقد جلب هذا النهج المزيد من محركات النمو للناتج المحلي الإجمالي حتى عند انكماش قطاع النفط (وتحديداً، حقق قطاع النفط نمواً سلبياً في خمس سنوات خلال الفترة 2016–2025، في حين انكمش القطاع غير النفطي في عام جائحة كوفيد 2020 فقط)، وساهم في خلق وظائف، وعزز الثقة الدولية باستقرار الاقتصاد المحلي، وانعكس في استقرار أو رفع التصنيف السيادي للسعودية من قبل وكالات التصنيف العالمية الثلاث، ما يقلل تكاليف الاقتراض ويضمن استدامة مالية طويلة الأمد للأجيال القادمة، ويعزز ثقة المستثمرين محلياً وخارجياً.

وهكذا، فمرحلة ”تعظيم الأثر“ ستشهد تجويداً لما تحقق، ولن يخلو الأمر من تصدر مبادراتٍ للمشهد باعتبار تأثيرها شامل ومتسارع، ويأتي في المقدمة الذكاء الاصطناعي، الذي أخذ في التأثير على كامل المشهد الاجتماعي - الاقتصادي محلياً وخليجياً وإقليمياً وعالمياً، وعلى القطاع النفطي والأنشطة غير النفطية على حد سواء. ولعل الأمر يتطلب تفصيلا في المبادرات التنفيذية وبياناً لتداخلها مع برامج تحقيق الرؤية على تنوعها، وما هي الأجندة الوطنية لتعميق استخدام وتطوير الذكاء الاصطناعي في الأنشطة الحكومية والقطاع الخاص والقطاع الثالث، ومتابعة ربع سنوية لتقدمها، شأنها شأن ما يعلن من قبل وزارة المالية في كل ربع عن أحوال المالية العامة، وكذلك ما يقدمه صندوق الاستثمارات العامة عبر تقريره السنوي. وإذا كانت شركة ”هيومين“ ستكون ”أرامكو“ المستقبل، كما صرح وزير الاقتصاد السعودي، فذلك يعني إنبلاج قطاع جوهري التأثير سيجلب تغييرات كبيرة - اجتماعياً واقتصادياً وتقنياً - ما يتطلب شفافيةً وإحاطة ربع سنوية، وتوعية باعتبار أن التأثير سيطال كل قاطن في المملكة وكل مستثمر وتاجر وصناعي وريادي على أرض المملكة، وأن وعي ومساهمة الجميع مطلوبة.

معدل (%) النمو الحقيقي للقطاع النفطي والقطاعات غير النفطية للفترة 2016- 2025


كاتب ومستشار اقتصادي، رئيس مركز جواثا الاستشاري لتطوير الأعمال، عضو سابق في مجلس الشورى