آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 12:03 ص

الكابتن حسين التاروتي… من ذاكرة الملاعب ودروس الإنسانية

رضي منصور العسيف *

ليست كرة القدم مجرد لعبة تُمارَس للترفيه والمتعة، بل هي عالمٌ واسع من القيم والمبادئ، تُصاغ فيه الأرواح قبل أن تُسجَّل فيه الأهداف.

هي ميدانٌ تنبض فيه روح التعاون، وتكبر فيه العزيمة والإرادة، ويتجلّى فيه الإحساس بالمسؤولية… وغيرها من الأخلاقيات الرفيعة التي لا تُدرَّس في الكتب، بل تُزرَع في القلب عبر التجارب والمواقف.

وكل لاعب، مهما طال مشواره أو قصر، يحمل في ذاكرته مشاهد لا تُمحى…

مواقف بقيت شاهدةً على إنسانيته قبل مهارته، وعلى معدنه قبل قدمه.

ففي كل موقفٍ درس، وفي كل درس عبرة، وفي كل عبرة قصة أخلاقٍ لا تُنسى.

وهذا ما حدّثني عنه الكابتن واللاعب الخلوق الأستاذ حسين التاروتي أبو نور، عندما سألته عن بعض المواقف التي مرّت به وبقي أثرها عالقًا في روحه؛ مواقف لم تُكتب في سجلات المباريات، بل نُقشت في سجلات الذاكرة… لأنها كانت أقرب إلى دروس الإنسانية منها إلى تفاصيل الرياضة.

يقول أبو نور:

"مرت عليّ في ملاعب القطيف مواقف كثيرة… بعضها صنع انتصارات، وأخرى صنعت رجالًا.

لكن أكثر ما يبقى في الروح ليست الأهداف… بل الإنسانية التي تظهر حين تُختبر القلوب."

الموقف الأول: مباراة أوقفها الضمير

"في إحدى دورات القطيف الخيرية كنا نشاهد مباراة مشتعلة… فريقٌ متقدم بهدفين، وآخر يقاتل من أجل العودة.

وفي لحظة احتكاكٍ عنيف، سقط لاعب من الفريق الخاسر وقد ابتلع لسانه، وأصيب آخر من شدة الارتطام.

ورغم سرعة الإسعاف وإنقاذ اللاعب، إلا أن المشهد كان ثقيلًا… النفوس انكسرت، والملعب تغيّر جوّه تمامًا.

وهنا ظهر معدن الرجال.

الفريق المتقدّم — وهو الأقرب للفوز — جمع لاعبيه، وتقدّم قائده إلى الحكم قائلاً:

”أنهِ المباراة… لا نريد الفوز بهذه الطريقة. نعيدها متى شئتم.“

كانوا مستعدين للتنازل عن فوزٍ شبه محسوم… فقط احترامًا لروح لاعب سقط أمامهم.

موقفٌ نبيل… لا يزال في نظري أجمل من كل الأهداف التي سُجّلت في تلك الدورة."

الموقف الثاني: حين ركضت الإنسانية لإنقاذ لاعب

"أما الموقف الآخر… فهو من ذكرياتي مع الكابتن رضا الجنبي، الرجل الذي تحضر إنسانيته قبل أن تحضر قدماه إلى الملعب.

كنت في بداياتي مع شباب الترجي، نتدرّب في مدينة الأمير نايف.

وقبل نهاية حصّتنا كان فريق مضر بقيادة الكابتن رضا يبدأ الإحماء، وكان — حفظه الله — يجري مع لاعبيه بحيوية، كأنه واحدٌ منهم.

وفي أحد الأيام، وبينما كنت أجري تقسيمة قصيرة، وقع حادثٌ لا يُنسى…

خرج الحارس خروجًا عنيفًا، واصطدم بقوة بأحد مدافعينا، فسقط اللاعب وقد ابتلع لسانه.

لم تكن لدي الخبرة الكافية، والارتباك سيطر على اللحظة… الولد يفقد وعيه، ونحن نحاول بلا جدوى.

وفجأة…

ترك الكابتن رضا الجري، واندفع نحونا بكل ما يملك.

جلس عند اللاعب، فتح فمه، أخرج لسانه بخبرة، وثبّت مجرى الهواء…

حتى إن اللاعب، من شدّة الحالة، عضّ على يد الكابتن رضا، لكنه لم يتراجع.

وبفضل الله ثم سرعة تدخله… عاد النفس، وعاد اللون إلى وجه اللاعب.

نقلناه إلى القطيف المركزي وتعافى — والحمد لله — وإن لم يعد لكرة القدم من شدّة خوفه بعد تلك الحادثة.

ذلك اليوم علّمني شيئًا كبيرًا:

أن البطولة ليست في الفوز، بل في القدرة على إنقاذ إنسان.

والكابتن رضا الجنبي كان يومها بطلًا بكل ما تعنيه الكلمة."

الموقف الثالث: موهبة صنعتها شهامة رجل

"كان معنا في نادي الترجي لاعب صغير لا يعرفه أحد، لكن عين المدرب رأت فيه موهبة تستحق أن تُمنح فرصة.

في تلك الأيام لم يكن الإعلام حاضرًا، وكان من السهل أن تضيع المواهب دون أن ينتبه إليها أحد.

حدّثتُ أخي وصديقي العزيز توفيق الغريافي أبو عبدالله عن هذا اللاعب، فتبناه معنويًا وماديًا، ووقف معه في كل خطوة.

وعندما تلقّى اللاعب عرضًا من نادٍ أكبر، وقف أبو عبدالله أمام العقبات التي كادت تعرقل انتقاله — عقبات مادية وإدارية — حتى تمّت الصفقة.

انتقل اللاعب بعدها إلى أندية أكبر وأعلى شأنًا، وتحوّل من لاعب شاب مغمور إلى لاعب محترف ورجل ناجح فتح الله له أبواب الرزق.

هذا الموقف يظل محفورًا في الذاكرة…

لأن ما فعله أبو عبدالله لم يكن مجرد مساعدة لاعب، بل كان تغييرًا لمسار حياة كاملة."

"هذه المواقف هي أكثر ما علّمني أن كرة القدم ليست مجرد رياضة، بل مدرسة في الرجولة، والوفاء، والإيثار.

وقدّر الله أن أعيشها لأفهم جيدًا أن أجمل ما في الملاعب… هو الإنسان."


كاتب وأخصائي تغذية- القطيف